افتتاحية:
سيبقى عامل التقوى المحدد الأساسي لاختياراتنا من حيث مضامين الكتب والأهداف. فنحن كأبناء الإسلام عقدنا العزم على التزام الكلمة والفكرة التي ستنجينا وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حمله حديثه الشريف: من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم.
الاهتمام بأمر المسلمين موصول دائما بالتعزز بالله سبحانه وتحقيق العبودية له. فالتربية ستبقى أبدا منبت كل خير وفعل يرمي إلى انبعاث هذه الأمة وتجديد إيمانها وفهمها للدين.
لسنا في حاجة لنؤكد أن القضية الفلسطينية من قضايانا الكبرى، بل نعتبرها القضية المركزية التي عنها تتفرع مجموع القضايا التاريخية المصيرية. فالتعبئة من أجلها وبكل الوسائل خلق، والدفاع عنها شرف، والجهاد في سبيلها وسام الأحرار الأبرار وعنوان الإيمان وبرهان الصدق.
هناك قراءات متعددة للقضية الفلسطينية . بعضها يركز على الجانب التاريخي، والآخر يذهب صوب البعد السياسي، وثالث يحلل العوامل الاقتصادية والجغرافية … الأستاذ عيسى أشرقي يذهب إلى أساس القضية ويذكر بمجموعة من الأصول التربوية القرآنية التي يعتبر السكوت عنها تشويها لها وابتعادا عن الإصابة والحكمة.
وصية شهيد:
التقيت بالداعية الفلسطيني الشهيد عمر مفتي زاده بأحد شوارع سانية الرمل بتطوان وأنا لا زلت طفلا لم أبلغ سن التكليف. فسألني رحمه الله عن القدس وفلسطين واليهود والإسلام، وأهداني بعد أن أوصاني بالجهاد من كتبه التي كان يوزعها في جولاته الدعوية راجلا كعادته.
وبعد سنوات بلغني خبر اغتياله من طرف المخابرات اليهودية الصهيونية بعد أن ضاقت ذرعا بأسلوبه البسيط المحكم في التواصل وشغفه بالدعوة وأنشطته المكثفة في العالمين العربي الإسلامي وأوربا.
لم أكن أعرف أن كلمات الصادقين ووصايا المجاهدين ونصائح المفلحين وعبارات الشهداء تنغرس في الفطرة وتستقر في الذاكرة وتجذب الإرادة على هذا النحو وإلى هذا الحد.
أسأل الله سبحانه أن يقبل هذه الرسالة في الكلام الطيب والعمل الصالح، ويجعلها هدية ثواب وعهد للشهيد عمر مفتي زاده. وأسأله سبحانه أن يجعل لكل المخلصين المجاهدين من هذه الأمة ذكرا محمودا في الدنيا والآخرة. آمين.
فلسطين دعوة للتوبة النصوح
نحيي شهداء فلسطين تحية العهد والولاء والنصرة، ونسأل الله سبحانه أن يتقبلهم في الصادقين الصالحين الطيبين ويجعلهم من شفعاء هذه الأمة. كما نسأل الله سبحانه أن يربط على قلوب المرابطين وينزل عليهم برد رحمته ويحبب إليهم الجهاد والصبر عند لقاء العدو. آمين.
العبرة:
يمكننا أن نستخلص الكثير من العبر ونحن نتحدث أو نكتب عن القضية الفلسطينية الإسلامية الإنسانية التي تعرف اليوم أصعب وأحلك فصول المؤامرة الصهيونية الأمريكية الغربية الحاقدة. وحين نستعمل كلمة “العبر” فنحن لا نعني أبدا الوقوف عند الاجتهاد العقلي والعلم الذهني والتحليل السياسي، بل نعني تلك الدلالة القرآنية لكلمة العبرة: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”، “إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار”، “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب”، “إن في ذلك لعبرة لمن يخشى”. “العبرة” من نصيب أولي الأبصار والألباب والقلوب المتعظة التي تراقب ربها بصدق العزيمة على الاستقامة، وبالطاعة المصحوبة بالخشوع والخضوع، وبدوام الاعتذار والرجوع. وهي أبعد عن أهل العقول الواهية والآراء السقيمة والأهواء المنحرفة، الذين يصدفون عن الحق ويعدلون عن البينة ويصرون على المعصية.
“العبرة” مقدماتها التفكر والتدبر والفهم، وثمرتها التجاوز والعبور. أن نعبر من الخطإ إلى الصواب، من الباطل إلى الحق، من الضعف إلى القوة، من الجبن إلى المروءة، من الهزيمة إلى النصر، من ذل الغافلين عن الله إلى عزة التائبين المؤمنين بالله سبحانه المستمسكين بوحيه الحكيم الكريم.
نكون راشدين مبصرين إن نحن تجاوزنا مجموعة من الرهانات التي قيدت إرادتنا في السابق وجعلتنا دون مستوى الأمم الأخرى في صناعة التاريخ. وإن كان مدلول التاريخ في شرعتنا ومنهاجنا لا يوضع القياس في وسائله وأساليبه ومطالبه وغاياته مع نظيره الوضيع الجاهل الساقط عند هؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم، “يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون”.
غافلون في جناياتهم وذنوبهم، ناسون ليوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه، مستمرون في الإقبال على الدنيا ووضعها في غير موضعها حتى أحاط بهم مكر الله وأتاهم بأسه الأليم الشديد.
ولكن قبل التطرق إلى تلك الرهانات ألفت الانتباه إلى أمور أساسية يجب استحضارها:
مبدأ الأمة:
إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها الأرض الفلسطينية المباركة حطمت بلا شك أو امتراء حدود الدولة القطرية، وأعطت للشعوب، على مستوى الولاء، البعد القرآني الأصيل: بعد الأمة الإسلامية.
إنه بعد حيوي شرعي طالما سعى وجهد واجتهد ملوك وسلاطين الجبر بحكم تربيتهم وسفاهة عقولهم وجبن تبعيتهم وانقيادهم الطوعي التطوعي للاستعمار والاستكبار إلى تجاوزه والاستهانة به. إنها ظلمة الأنانيات وغشاوة الشهوات وشغف الملك والرئاسة.
ويبقى هذا التآزر والتضامن الوجداني الجماعي غير كاف مهما اتسع، لأن مفهوم الأمة في القرآن الكريم ذو أبعاد تربوية اجتماعية عميقة، مرتبطة بكمال الرسالة المحمدية في سموها التشريعي العملي وفيضها العرفاني العلمي.
ويمكن حصر بعض القيم التي ورد مصطلح “الأمة” في الذكر الحكيم مرهون موثوق بها، يعتبر تركها والإعراض عنها من الموبقات الموجبة للمروق والانسلاخ من الدين قال تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”. وقال عز وجل: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”.
ذكرت الآيتان أربعا من الأمانات الكبرى والقيم والأصول الجامعة التي عليها مدار الدين الإسلامي الحنيف:
1. المعروف: كل ما عرف حسنه شرعا وعقلا سواء في الأخلاق والمروءات والمعاملات والعلاقات والأقوال والأفعال. ما هو لازم للفرد المسلم الإتيان والتحلي به، وما هو متعد إلى خصوص الصحبة وعموم القرابة والأمة والإنسانية. إن “المعروف” عنصر من أهم عناصر بقاء الأمة واستمرار قوتها وعمرانها، بل وحقيقة ظهورها ووجودها. إنها مسؤولية أخلاقية تربوية جماعية لتحقيق المشروع النبيل: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”.
2. المنكر: كل ما عرف قبحه شرعا وعقلا في كل ما يحيط بالمسلمين زمانا ومكانا، ظاهرا وباطنا. يقول تعالى: “وذروا ظاهر الإثم وباطنه”، “ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن”، “قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون”.
النهي عن “المنكر” وما يلحق به شكلا أو صفة كالبغي والإثم والفحشاء والظلم والفساد عامل فاعل مصيري في تحقيق التوازن والاستقرار الاجتماعي، ونشر الثقة والمودة والانسجام والتعاضد وروح المسجد.
وليست “الأمة” أبدا تلك الساحة التي لا ينزل بها باطل ولا يحل بها منكر، فهذا يتنافى مع مقتضيات الحكمة الإلهية وسنن المشيئة الربانية. فالأخطاء والزلات والنسيان والضعف والمعاصي، بل حتى الجرائم ظواهر لم تخل منها حتى مجتمعات الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا أزكى السلام، إلا أن نطاقها وحجمها في الأمة المؤمنة يبقى ضيقا ومحصورا، لأن الكل يعمل على تلافي وعلاج هذه الأعطاب والأمراض المبعدة عن الله سبحانه بكل الوسائل الشرعية: من العفو والصلح والموعظة الحسنة والنصح إلى الزجر والتحجير والضرب والتنكيل.
3. الإيمان بالله: إن “الأمة” التي لا تقوم وتنبني في كبار أمورها وصغار أعمالها وجزئيات حركاتها وتفاصيل أحاسيسها وخواطرها على الإيمان بالله سبحانه وطلب رضاه ونيل محبته والفرح بمعرفته والفوز بقربه وولوج حصنه والاستقرار في ملاذ رحمته والاحتماء بسلطانه والاستناد إلى عزته والتسليم لفعله والشكر له على نعمه وتفضله لهي أمة سلكت كل مسالك الهلاك والآفات والأسقام والوهن، وزاغت عن مسلك سعادتها وفلاحها ونصرها.
يقول الأستاذ الحكيم سعيد النورسي نور الله قبره: (إن الإنسان بسر التوحيد صاحب كمال عظيم بين جميع المخلوقات، وهو أثمن ثمرات الكون، وألطف المخلوقات وأكملها، وأسعد ذوي الحياة ومخاطب رب العالمين، وأهل ليكون خليله وحبيبه. حتى إن جميع المزايا الإنسانية وجميع مقاصد الإنسان العليا مرتبطة بالتوحيد وتتحقق بسر التوحيد، فلولا التوحيد لأصبح الإنسان أشقى المخلوقات وأدنى الموجودات وأضعف الحيوانات وأشد ذوي المشاعر حزنا وأكثرهم عذابا وألما. ذلك لأن الإنسان يحمل عجزا غير متناه، وله أعداء لا نهاية لهم، وينطوي على فقر دائم لا حدود له …) انتهى.
إن الإيمان بالله هو الزاد الأغلى والأنفس الذي على العبد أن يحيى ويجاهد به، ويحب به وفيه، ويبغض به ولأجله، ويلقى به ربه سبحانه. نسأل الله أن يملأ صدورنا بإيمان ويقين ينفعنا يوم: “وحصل ما في الصدور”. ونسأله سبحانه الوقاية من نار موقدة ستنفذ إلى البواطن والقلوب لتحرق على الدوام ما نبت فيها وما أشجر من أدران الشك وأشواك الضيق وظلم الإلحاد: “كلا لينبذن في الحطمة. وما أدراك ما الحطمة؟ نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة”.
4. الخير: الدعوة إلى الخير قيمة حيوية عليا وصبغة إيمانية عظمى مست كل مجالات حياة أهل القرآن:
– مجال العبودية والتوحيد: “والله خير وأبقى”، “أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار”
– مجال التربية والقلب: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى”.
– مجال الغيب والموت: “والآخرة خير وأبقى”.
– مجال الحكم والولاية: “قالت إحداهما يا أبت إن خير من استأجرت القوي الأمين”.
– مجال العقل والفكر: “يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”.
– مجال الأخلاق والمروءة: “فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير”.
– مجال الدعوة والتواصل: “قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى”.
– مجال المعاملات والبر: “وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون”.
إن هذه المقتضيات الأربعة لكلمة الأمة ضمانة كبيرة وسنة ربانية جامعة وينبوعا للقوة ومفتاحا للنصر. الإتيان بها والحرص عليها لاقتحام حالة التشرذم والتمزق والأنانية والضعف والتحزب لغير الله واجب تكليفي هام، وذلك مما أكد عليه الداعية الوقور محمد سعيد رمضان البوطي حفظه الله في قوله: (القوة المعنوية هي صاحبة السيادة، والقوة المادية هي الخادم. والقوة المعنوية هي وحدتكم، هي تضامنكم، هي تآلفكم).
مبدأ التوبة:
وتبقى هذه القيم المثلى قابلة للنسف والانجراف بعيدة عن التماسك والتراص إذا لم تكن الآخرة بين الجوارح، والموت بين الجوانح، وحفرة القبر عند كل خطوة، والتوبة عتبة المحيا. ولست أعني بالتوبة ذلك المعنى الضيق الذي يراد لهذه الكلمة ولو سهوا: التوبة من الذنوب، بل ذلك المعنى الشامل الذي لخصه سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله حين قال: “التوبة انقلاب دولة”. انقلاب في سلوكاتنا اليومية وحياتنا السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. انقلاب يجعل حركاتنا وسكناتنا عبادة وقربات إلى الله سبحانه. وازعنا في كل مقصد إيماننا ويقيننا أننا سنموت وسنلقى المولى الكريم الحليم الحنان المنان: “إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم”، “إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما”.
لا نريد أن نحيى كالبهائم ونطرح كالجيف في قبورنا، شغلتنا الدنيا دار الابتلاء، دار الزلزلة والفناء، عن حقيقة وجودنا: حقيقة الموت والقبر والحشر والنشر والحساب والصراط والجنة أو النار. نار وأية نار!!! بئس المصير والمثوى والمآل والهاوية والأم والقرار.
مبدأ الإيمان:
نعم، فلسطين أم القضايا، مات على شعبة من نفاق من لم يحدث نفسه بالجهاد لتحريرها. ولكن كيف نجعل أعمالنا على بساط الإيمان الفطري بالله وبعزته ووعده، ونقرأ هذه الآيات بقلوبنا؟ “وكان حقا علينا نصر المؤمنين”، “والله يتولى الصالحين”، “إن الله يدافع عن الذين آمنوا”، “ولا تخافوهم وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”، “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم” هذا هو ملجأ هذه الأمة: الإيمان وتجديد الإيمان. وإلا ذب الفتور وغلبت العادة وسطى اليأس وانتشر القعود.
اليأس هو أخطر ما يتهددنا وتراهن عليه الفئة اليهودية الطاغوتية الباغية. فأنت حينما تيأس فهذا يعني أن في صدرك شروط وقابلية الانحراف عن الإسلام. لا تملك مقومات الرجولة، خال من اليقين، يمكن أن يضيق صدرك حتى من القرآن مع جلال قدسيته. ولك منذر في تجربة بعض شباب الستينات والسبعينات الذين أنكروا الغيب والوحي واشمأزوا من الإيمان فاستحوذت عليهم الأسباب المادية الصرفة التي زينتها نسقية الفكر المادي الاشتراكي فحصدوا الهزائم، “أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان. إن الكافرون إلا في غرور”. نسأل الله أن يشرح الصدر ويجدد الإيمان ويجبر الكسر ويلم الشعث ويبدل السيئات حسنات. آمين.
لابد إذن من ترتيب شروط العزة والنصر بدأ من التربية الإيمانية الإحسانية والعلم بأمر الله ومراده ومقاصده إلى العلوم الكونية التي تعطي القوة في عالم المادة والأسباب. بدأ من تربية الفرد في المسجد والرباطات ومجالس الذكر والتفقه إلى زجه وانسجامه في جسم الجماعة المؤمنة المجاهدة. بدأ من التخطيط المرحلي لاستنزاف واستفزاز العدو إلى المشروع المستقبلي لمحاصرته وهدم ونسف بنيانه. وأثناء كل هذا وقبله وبعده التذكير بلقاء الله كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وهم في قمة البلاء والابتلاء: (أبشروا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة). يقول تعالى: “تريدون عرض الحياة الدنيا، والله يريد الآخرة”.
أعود إلى الرهانات التي أشرت إليها في بداية الرسالة:
الرهان الأول: رهان يجب تجاوزه، رهان الحكام. فالحاكم لم يعد ذلك العائق الذاتي الذي يمنع تحقيق المواجهة مع عدو أمة الرسالة: الصهيونية والاستكبار الأمريكي، بل يقف سدا منيعا دون انبعاث الأمة على جميع المستويات. إنه يخنق الشعب ويتعامل معه دون مرتبة العبيد. يحاصر قيام أية إرادة سياسية فاعلة قادرة على التشريع والتخطيط والتدبير وإبداء الرأي والنظر إلى الأمور باستقلالية. إننا في حاجة إلى فقه سياسي جديد يتجاوز الحاضر وخيارات الحاضر. فقه تتجدد فيه علاقة الحاكم بالقرآن أولا. على هذه العروة وضع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصبعه حين قال: خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة عن الدين فلا تأخذوه. ولستم تاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة. ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار.؟ ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم. رواه أبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ومع تجديد علاقة الحاكم بالقرآن ستتجدد علاقة الحاكم بالمحكومين على شكل ينزل الأول من مقام العصمة الذي يعتبر خيانة لله وخيانة لرسوله، ويخضعه لرقابة الأمة ومعيار القرآن والسنة النبوية والتجربة الراشدة.
الرهان الثاني: الشرذمة اليهودية الصهيونية تشن علينا حربا في فلسطين. الحرب بكل وسائلها التقنية والعسكرية والإعلامية والصناعية. هذه الحرب ضد الأمة، هي حرب ضد رسالة الإسلام مهما تسترت خلف المقاصد الاقتصادية والمآرب الأرضية. لابد من مقابلة الإسلام مع أعداء الإسلام. وهذه حقيقة قرآنية: “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”. إن أصل التدافع الكوني الإنساني كان دائما وسيبقى بين أهل الإيمان والحق وأهل الزيغ والباطل. هذه نظرة ستؤسس لنا منطلقات أخرى للتعامل مع قضايا أمتنا.
الرهان الثالث: تجاوز تأسيس الفهم انطلاقا من الأخبار الصحفية والمعلومات الإعلامية السمعية والمرئية رغم أهميتها في حصر تجاوزات العدو واعتداءاته. الله سبحانه يذم من تشكل عقله خارج نور القرآن وعلم القرآن وبصائر وبينات الذكر الحكيم، ويصفه بأبشع النعوت وأقبح الأوصاف، “أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم”، “مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا”، “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا”/ “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
العقلية اليهودية، والنفسية اليهودية، والطباع السلوكية اليهودية لن تعثر عليها وتجد كمال الدقة في وصفها إلا في القرآن الكريم وفي التجربة النبوية التي هي امتداد لتجارب الأنبياء السابقين مع اليهود، خصوصا سيدنا زكرياء وسيدنا يحيى وسيدنا داود وسيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهم السلام.
بلغ اليهود انحطاطا من الجهل لم تبلغه أمة قبلهم ولا بعدهم. جحدوا حق الله ووصفوه بأبشع الأوصاف كقولهم “إن الله فقير ونحن أغنياء”، “يد الله مغلولة”، “عزير ابن الله”. تعالى وتقدس في نور جلاله وكبريائه وعزته وغناه وحمده. جهلهم بالله فتح عليهم كل أبواب الشرور والمعاصي والمخازي، فقتلوا أنبياءهم، وحرفوا شرائعهم، وكذبوا على ربهم زاعمين أنهم أحباءه وصفوته من خلقه، اخترعوا الأباطيل وزوروا الحقائق، وانحدروا لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل يسارعون في الآثام والعدوان، ويوقدون نيران الحروب والفتن وينشرون العداوة والبغضاء. لكل هذا لازمهم غضب الله، ورفع عنهم فضله، وجاءهم السلب بعد العطاء، فأصبحت أفئدتهم هواء، وقلوبهم حرمت وحرمت عليها السكينة والطمأنينة والوقار.
أمة ملعونة، تجردت من الوجدان الآدمي والاعتدال الديني، فلا عهود ولا مواثيق ولا أمانات. من يراهن على الحل السياسي والتعايش السلمي فهو في غمرة الخيانة ليس إلا.
الرهان الرابع: النظر إلى القضية الفلسطينية من منظور النظرة الإسلامية الشاملة: القضية الفلسطينية هي الوجه الصارخ لمعاناة الإنسانية من النظام الديمقراطي الاستكباري الدولي الذي لا يؤمن بالتنوع والتعدد والتكامل والتعايش والتعاون. يسيطر على العالم عبر وسائله العسكرية المباشرة وشركاته، ومجموعاته المالية والصناعية، وتمركز الرأسمال والقوة، وثورات التكنولوجيا والمعلومات.
مجزرة مخيم جنين الفلسطيني الشهيد على يد الصهيونية اليهودية، ومجزرة جروزني الشيشانية على يد الشيوعية الروسية، ومجزرة قلعة جانجي بمزار الشريف الأفغانية على يد الليبرالية الأمريكية، ومجزرة سيربينتشا البوسنية على يد الديمقراطية الأوربية، مجازر ننظر إليها في سياقها الكوني الإنساني الآدمي. هناك اليوم 30 مليون شخص يموتون جوعا سنويا، مليار عاطل عن العمل في العالم، 300 مليون طفل يعانون من أبشع أنواع الاستغلال البدني، 17 مليون لاجئ، 800 مليون يعانون من سوء التغذية، انفجارات اجتماعية في كل مكان، وتفكك مستمر للمجتمعات، وانهيار للبنى الاقتصادية للدول الفقيرة المستضعفة التي تضاعفت أزماتها واشتدت معاناتها.
التقارير الأمريكية الداخلية تثبت أن أزيد من 23 مليون أمريكي استغاثوا بالمنظمات الخيرية لإنقاذهم من حالات جوع مهددة لحياتهم. ويصبح هذا الرقم مخجلا مروعا حين نعلم أن 9 ملايين من المستغيثين هم في سن الطفولة. كيف تتجاوز الديمقراطية الأمريكية الدوابية كل هذه المآسي الإنسانية الطارئة؟. وبدل التعبئة والمساهمة في إيجاد الحلول لهذه الكوارث الاجتماعية الخطيرة التي تفوق في الخسارة الكوارث الطبيعية ترفع الديمقراطية الأمريكية معدل الموازنة العسكرية إلى 400 مليون دولار، وتوجه كل قدراتها وكفاءاتها العالية والمتطورة في تجميع المعلومات عبر تقنيات الأقمار الاصطناعية وتحضير الخرائط العسكرية وصور الكمبيوتر إلى بسط هيمنتها على العالم والانفراد الكامل بالقرارات التي تمس مصائر الشعوب والثقافات والديانات والممتلكات، مع الاستخفاف بكل المؤسسات الدولية والإقليمية والوطنية، وكذا المعاهدات والاتفاقيات السابقة واللاحقة.
خاتمة:
نحن أصحاب مشروع، نحن أصحاب رسالة للإنسانية المعذبة. معاناة إنسان واحد في الكون واستفزازه وظلمه واحتقار آدميته من طرف المستكبرين نتحمل مسؤوليته نحن أبناء الإسلام. وهذا مطلب آجل نترقبه ونعد له وتقوم له أجيال الإسلام الصاعدة القادمة إن شاء الله.
إذا لم يكن لنا اليوم سلطان على التغيير والتأثير في المؤسسات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية فلا أقل من المبادرة نحو تغيير التصورات والأفكار والفهوم والعادات والمواقف والميولات والمشاعر، ومن ثم النفوس والقلوب والإرادات والهمم.
إن القضية الفلسطينية تفرض على من تبقى من أهل الشرف التقارب والتعارف والتوحد على أرضية الإسلام، أرضية العزة والتمكين: “تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله”.
نعوذ بالله ونستجيره أن نركن إلى ما ركن إليه المفلسون المبطلون الذين قال في حقهم الخبير العليم: “ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل، هل يستويان مثلا؟ الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون”، “ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله”، “إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟”، “بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم”، “يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟”، “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”، “إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب”.
شركاء وأنداد وتماثيل وأهواء وأرباب وسبل وأسباب، ألفاظ متباينة والمعنى واحد. حبال من شد نفسه إليها والتصق بها، ونسي الله عز وجل المعز الولي النصير الكفيل الوكيل دخل عالم الزيف وأودية الصغار والذل والهوان وخرج من حمى الله وعبوديته. مظاهر متجددة للغواية والزيغ والغفلة عن الله.
فلسطين ليست للتجارة الدنيوية، بل فلسطين دعوة للتوبة النصوح والفرار إلى الله وصحبة أولياء الله، “ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين”. إنه مشروع جهادي يبدأ من الإنسان نفسه لنقله راضيا إراديا من نمط حياة إلى نمط آخر يختلف في اليقينيات والغايات والصبغة والمقومات.
اللهم صل على سيدنا محمد ملء نور خزائن رحمتك وفضلك وإحسانك، وصل عليه في الأولين والآخرين صلاة دائمة بدوام عزتك وكبريائك يا مؤمن، يا مغيث. وعلى آله وصحبه وإخوانه مثل ذلك.