لقد ماتت من كانت نورا يستضاء به في دروب الحياة المظلمة!
لقد رحلت من كانت تقوم من الليل، وتنادي على أبنائها: يا فلان ويا فلانة، قوموا لصلاتكم، فإنه وقت التجارة الرابحة!
لقد فارقت الحياة من عسّلها رب العالمين، وقبض روحها على أفضل عمل؛ حين صامت شهرها وأتبعته ستا من شوال.
وتتوالت الكرامات والبُشريات حتى بعد الممات، فهذا الشيخ “المختار” إمام المسجد، يلتقي ب “نعيم” عند صلاة الصبح ويزف له شعوره الغريب عندما كان يقرأ القرآن في مجلس العزاء: “إنني لأول مرة أشعر بالسكينة أثناء القراءة، وأنني حقا أقرأ لله”… ويا للهَيبة الإيمانية حينما رأيت شبابا مؤمنين طاهرين يوزعون الختمات القرآنية، ووجوههم تتلألأ نورا وبشرى!
بعد هذا اللقاء الفجري بالإمام، يأتي الخبر اليقين، ليعزز شعوره البريء، وفرحه بالله… إنها رؤيا منامية يقصها زوج المرحومة على ولده “نعيم” بعد أن قام فزعا من النوم، كأنه رآها حقا، ليخبر عنها بأنه رآها في أحسن حلة بيضاء، عادت من قبرها لتبلغ له رسالتها، ثم ترجع على الفور: “أَخبِر أبنائي أنني بخير وفي منتهى السعادة، وأن قبري كان قد ضاق عليّ، لولا قراءة القرآن التي كانت تبلغني الليلة، وتجعل قبري يتمدد شيئا فشيئا حتى صار قصرا واسعا… رضي الله عن أصدقاء ولدي “نعيم”، فقد بلغتني قراءتهم كلها، أما “الطُّلْبة ” (حفاظ أهل الحي) فقد كان فيهم الشيخ الإمام “المختار” هو الوحيد من قرأ لله. وإني لأرضى على ولدي “نعيم “رضا كثيرا فهو من ثبت وصبر، واحتسب، واتصل بالأقارب ليخبرهم برحيلي، فاللهم ارض عنه. ثم استرسلت في كلامها لتترك وصية تخص زوجها وأبناءها.
انتهى العزاء وتفرقت الجموع، وبقي “نعيم” يتذكر بين الحين والآخر حنين أمه، وكلماتها العذبة، وحديثه معها كلما عاد من الجامعة واستقبلته في أحضانها، والفرح والسرور يغمر كيانها.
آه يا أماه لقد تركت فينا جرحا لا يندمل أبدا…!!
حاول مرارا أن ينتصر على الحزن والأسى، ويقنع نفسه أن الموت ليس النهاية، بل هو بداية حياة جديدة، ليتفرغ لمتابعة دراسته الجامعية، لكن دون جدوى. وذات يوم بينما كان مستغرقا في تفكيره وخياله، إذا بسماعة الهاتف ترن. رن.. رن.. رن..
يا إلهي! اللهم خبر خير يُخفف من حدة ما نزل…
ألو…ألو..
معك الأستاذ المشرف: لك مني مفاجأة!
لقد تم اختيارك لرحلة دراسية بالجامعة الإسبانية، هل أنت مستعد؟
نعيم: ونبضات قلبه تتسارع، تكاد تَهُدُّ قفص صدره… أنظر ما تقول يا أستاذ..! أكاد لا أصدق!
الأستاذ: هذا نبأ يقين، واعلم أن اصطفاءك لم يكن لسواد عينك؛ بل حكّمتُ العدل ولم أبغ شططا، إني نظرت إلى صاحب الدرجة الأولى فكان طالبا أستاذا لا يمكنه المغادرة، ثم قلت سأختار الطالب الموالي فكانت أستاذة أيضا، وفي الدرجة الثالثة كان القدر في انتظارك. هيا، في أمان الله، موعدنا يوم الأربعاء.
هنا انكشف معدن الأستاذ إنه حقا صاحب المروءة والخلق العظيم، فهو لا يعرف للرشوة ولا لبيع الذمم سبيلا.
استدار الزمن دورته، وحصل “نعيم” على تأشيرة السفر للعبور إلى الضفة الأخرى، لمتابعة دراسته في إطار التبادل الجامعي للباحثين، وتسجيل الماستر هناك، قصد تحقيق حلمه الذي كان يراوده منذ زمان.
وصل نعيم إلى الجامعة مندهشا لما يرى حوله، وفرحا مسرورا؛ لأن حلما قد تحقق. استقبلته الإدارة المشرفة بكل أدب واحترام وناولته شيكا بنكيا مقداره 900€ كمنحة جامعية شهريا أي ما يعادل عشرة آلف درهما مغربيا.
يا للكرامة قد حصلت لـ “نعيم” وهو الذي كان لا يملك أجرة طاكسي في بلده! – تسلّم شيكه الموقع باسم عمادة جامعة غرناطة، ولسان حاله يقول: الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، وإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا.