إذا نظر كل إنسان عاقل إلى ما يقع في قطاع غزة من دمار شامل يشنّه العدو الصهيوني الغاشم على شعب أعزل ليس له إلا الصمود تحت وابل من القصف أو الشهادة. فإنه سيكتشف أن غزة تلقن العالم درسا عميقا في فهم فلسفة الحياة والموت.
فأيهما أغلى؟
أيها الإنسان إنك لا تستطيع أن تهتدي إلى الجواب الكوني، إلا إذا حددت لنفسك معيار التفاضل عندك، كي تستطيع التمييز بينهما بدقة. فالذي اختار “منطق العاجلة” حيث حب الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة، فإن الجواب البديهي يجعل من الحياة أغلى وأجمل وأفضل، وعلى هذا الأساس فإن حبها يخول له الأخذ بكل الوسائل المشروعة والمتاحة ليملكها ويحافظ عليها ما أمكن، وإذا لم تسعفه هذه الأسباب المحدودة في اعتقاده، مال إلى الاستعانة بشتى المحظورات والممنوعات؛ كالكذب والخيانة والنفاق والظلم… وأجلب بخيله ورجله… واستفرغ جهده ووسعه حتى يستنفذ كل طرق المكر والخديعة والرذيلة، لتحقيق حلمه الغالي والنفيس.!!! وإلى هنا يكون قد فوّت على نفسه فرصة ثمينة للفوز بالمسقبل الموعود والأبدي، من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (الإسراء/18).
بينما من اتخذ “منطق الآخرة” معيارا أساسيا في التفكير والتحليل، فبدون شك يكون شعاره الخالد هو “الحياة بكرامة أو الموت بشهادة”، وفي كلا الحالتين يظل منتصرا سواء في المحيا أو الممات، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(النحل/97) . وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران/169).
إننا لا نريد أن نقلل من شأن قيمة الحياة في الدنيا، فهذا “حق مقدس” في الإسلام؛ مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة/32). ولكن نريد أن نلفت النظر إلى أن “الحرص الشديد على الحياة” ولو على حساب الدين والأخلاق والكرامة الآدمية، هو عين الفساد وجوهره، وهذا ما أشار إليه القرآن في إظهار حقيقة المفسدين في الأرض وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ البقرة/96،
ما ذكر الله “الحرص على الحياة” في سياق الذم إلا كونه سببا في الاعتداء على حقوق الغير وإلحاق الضرر به.
فيا ترى من كانت هذه صفته الذميمة، وميزته الحميمة، فإنه يعيث في الأرض فسادا، ويهلك الحرث والنسل، بسبب رغبته في البقاء والحفاظ على أصل تفوقه في زعمه “شعب الله المختار”، و لأجل ذلك لما علم الله، وهو العليم الخبير، ما يحملون في نفوسهم من قوى الشر تجاه البشرية جمعاء، كتب عليهم أن يفسدوا في الأرض مرتين، ثم يقضي الله بعد ذلك أمرا كان مفعولا، وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا … فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرةِ لِيَسُوؤواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (الإسراء/8)، ليذيقهم الله الموت الذي كانوا يفرون منه، على يد “عبادا لنا”، الذين هم قدر من قدر الله، فلا يضرهم من خذلهم، ولا يقطع إرادتهم لا إنس ولا جان، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. صفتهم “بأس شديد” فهم أقوياء في الإرادة قبل الوسيلة، إذا قالوا فقولهم سلاح مسدد بالرعب، ينصرون به مسيرة كذا وكذا، وإذا فعلوا كان فعلهم إعجاز وبركة يتحقق به وعد الله ورميه، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
فيا أيها العقل المادي المجرد، لك أن تتأمل في هذه الحقائق الكونية، التي تمر أمام عينيك صباح مساء وأنت عنها غافل أعمى، أفرأيت ماءك الذي تشرب إن أصبح غورا فمن يأتيك بماء معين!!!
لو شاء الله أن ينصر جنده كما نصرهم في غزوة بدر وهم أذلة، لنزع فقط “خاصية الحياة” من الماء الذي يشربه العدو، فيأتيه الموت من كل جانب وما هو بميت!! ويستنجد بسلطان الموت، ويطلبه بعدما كان يفر منه فرارا، ثم لا يجده! هذا مثال فقط من سلاح “جنود ربك”، وما يعلمها إلا هو! فتأمل أيها الإنسان!