تعديل المدونة ومقصد الاستقرار الأسري والتماسك الاجتماعي

Cover Image for تعديل المدونة ومقصد الاستقرار الأسري والتماسك الاجتماعي
نشر بتاريخ

يجري النقاش في المجتمعات الراشدة بحسب ما تدعو إليه الحاجات الراهنة، ويكون ذلك بحسب توفر شروط ضرورية في المسألة المراد اتخاذ قرارات هامة بشأنها، تعديلا أو تغييرا أو حذفا كليا أو جزئيا، من أجل التوصل للاختيار الصائب والمناسب بحسب الحال والمآل.

بناء عليه، يطرح على “تعديل مدونة الأسرة المغربية”، بعد عشرين سنة مضت على آخر تعديل، عدة أسئلة ملحة:

– سواء من حيث منهجية النقاش أو مضمونه أو مآلاته في ظل التحولات التي يعرفها النسيج الاجتماعي وطنيا ودوليا.

– سؤال مرجعية الاشتغال على الخلية الأساس في بناء المجتمع ومرجعيته وأهم مقاصده الاستشرافية.

1/ من حيث منهجية النقاش ومضمونه ومآلاته في ظل التحولات التي يعرفها النسيج الاجتماعي وطنيا ودوليا

تقتضي المنهجية السليمة في التعامل مع القضايا الاجتماعية المعقدة رصد المعلومات وتتبعها، وتصنيفها وتحليلها حتى يتم الانطلاق في الاتجاه السليم، فمثلا: “كشف تقرير للمندوبية السامية للتخطيط عن معطيات مقلقة حول معدلات العنوسة في صفوف نساء المغرب، وذلك ضمن تغيرات كثيرة طرأت على المنظومة الأسرية المغربية في السنوات الأخيرة، وتحولات بارزة في ما يخص الخصوبة والزواج، حيث إن 40.7 في المئة لا يزلن في مرحلة العزوبة في 2022م… وذكرت المندوبية أن المغرب انتقل من الزواج المبكر إلى الزواج المتأخر بشكل متزامن في الوسطين الحضري والقروي، بينما يتجه النقاش إلى خطر زواج القاصرين وكأنه المشكل الأعظم، بينما وراء هذه الحقيقة أعطاب كثيرة هي التي تحتاج لعلاج المشكلة متعددة الأبعاد” 1.

وأضاف التقرير أن: “سبب العنوسة هو البطالة وغلاء المهور والعادات التي تثقل كاهل العريس فيختنق بالديون وبعد الزواج يأتي الطلاق وتتشتت الأسر” 2.

لماذا صار تأخر الزواج مقلقا في البنية الاجتماعية؟ ما هي الأسباب المرتبطة بالقدرة المادية للشابات والشباب من أجل بناء بيت الزوجية الراشد؟ ما هي المناهج التربوية والتعليمية الموجهة لشباب الأمة من أجل ضمان نمو ديموغرافي متوازن ومستقبل تماسك اجتماعي؟ ما هي البنية التحتية اللائقة بالمواطن المغربي التي تحفظ ضروريات حياته في الحال والمآل؟

تتناسل الأسئلة التي تشير إلى المشكل بشكل مباشر وغير مباشر، ويقتضي المنهج السليم للإجابة عنها وإيجاد الحلول اللائقة بها تفكيك المعطيات وإشراك كافة المتدخلين لتوجيه بوصلة التغيير نحو الهدف الصحيح.

هذا نموذج واحد للخلل المنهجي، وهو خلل واحد كاف لطرح عدة أسئلة عن المراد الحقيقي من إثارة الموضوع بهذا الشكل.

 لم يعد النسيج المجتمعي اليوم محدودا بجغرافية معينة، أو محكوما بعلاقات موحدة في مجتمع ما، بل على العكس من ذلك؛ التأثير والتأثر بين المجتمعات سار بينها بشكل متسارع سواء في العادات والأعراف أو في الثقافات والدراسات أو في القوانين والتشريعات، وهذا يتطلب من مجتمعنا المغربي أن يكون في مستوى اللحظة لتقديم نموذج أسري يحتذى به. نعم لا بد من تسلط مناهج النقد للاختلالات التي سرت في المجتمع وبيان عيوبها وسبل معالجتها، لكن التعديل يجب ألا تتولاه جهات غير موضوعية، بل تشجع على التفكك الأسري بطرح حلول تأكدت عدم صوابتها في المجتمعات الأخرى.

2/ من حيث مرجعية الاشتغال على الخلية الأساس في بناء المجتمع ومرجعيته ومقاصده الاستشرافية

نعم، تتعرض الأسرة لاستهداف ممنهج باعتبارها الخلية الأساس للبناء الاجتماعي الفطري من خلال قوانين تفرض فرضا على الدول والشعوب وتنفق من أجلها الأموال الطائلة، وكأن المدخل القانوني المفروض بصور متعددة هو الحل الوحيد، ومما ينادي به البعض نداء صافقا الفاحشة المسماة “علاقات رضائية” مما ينذر بخطر شديد على مستقبل التماسك الأسري بالمغرب، بل بالمجتمع الإنساني.

ولقد تنبه عدد كبير من علماء الاجتماع إلى هذا الخطر وألفوا فيه كتبا ومؤلفات كثيرة، بل وحذر بعض كبار الساسة من ذلك، من ذلك كتاب: “الحرب حول الأسرة: التمسُّكُ بالمنهج الوسط”. The War Over the Family: Capturing the Middle Ground. Brigitte Berger and Peter L. Berger.(Garden City: AnchorPress/ Doubleday, 1983). للكاتبين: بيرجيت بيرغر، وبيتر بيرغر.

ولقد صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 15 حزيران عام 2008 في خطاب له عن الأبوَّة، فكان مما قال: “نحن نعلم من الإحصائيات أن الأطفال الذين ينشؤون من دون أبٍ هم أكثر احتمالًا خمس مرات في أن يعيشوا في فقر ويرتكبوا الجرائم، وتسع مرات في أن يتركوا المدرسة، وعشرين مرَّة أن ينتهي بهم المصير في السجن، هم أكثر عرضةً لأن يقوموا بمشاكل سلوكيَّة، أو أن يهربوا من البيت، أو أن يكونوا آباء وهم في سنِّ المراهقة، كما أن أسسَ مجتمعنا ستغدو أضعفَ بسبب هذا الأمر”.

ويقول الكاتب ديفيد بوبينو في كتابه “الحياةُ من دون أب: أدلَّةٌ جديدة قويةٌ حول أن الأبوَّة والزواج لا غنى عنهما لخير الأطفال والمجتمع”: David Popenoe, Life Without Father: Compelling New Evidence That Fatherhood and Marriage Are Indispensable for the Good of Children and Society (New York: The Free Press, 1996), :”إنَّ غياب الأب دافعٌ رئيسي وراء العديد من القضايا الخطيرة التي تستحوذ على اهتمام الإعلام: الجريمة، والسلوك غير الأخلاقي، وممارسة الجِنس قبل سنِّ النضج، وولادات المراهقات خارج إطار الزَّواج، والإنجازات الدراسية المتدهورة، والاكتئاب، واستعمال المخدرات استعمالًا ضارًّا، والجفاء بين المراهقين، وزيادة نِسبة الفقر بين النساء والأولاد” 3.

إن تعديل مدونة الأسرة بالمغرب، بما يتوفر عليه من تماسك اجتماعي متأصل في التاريخ منذ القدم، وبما أشربه من قيم وأخلاق فطرية إسلامية، ينبغي أن يجعل من هذا الورش مجالا للعمل التوافقي المستشرف لمستقبل الإنسانية وما ستحتاجه في الأمد المتوسط أو البعيد من كلمة سواء، وهذا يقتضي:

1. اعتبار مقصد الاستقرار الأسري والتماسك الاجتماعي بوصلة محددة لكل اشتغال في هذا الاتجاه لا محيد عنه.

2. اعتماد الاجتهاد الذي ينظم التخصصات ذات الصلة بالأسرة من علوم النفس والاجتماع والتوقعات الديموغرافية للبنية السكانية في عِقدٍ واحد علة قاعدة سيادة الشريعة بما هي أحكام ومقاصد ومنارات.

3. إعطاء العلماء الوضعية المركزية في النظر والاجتهاد ليبنوا ما هو قطعي مما هو ليس كذلك، وما يؤخذ من داخل مما يمكن في الانفتاح على كافة مصادر المعرفة الإسلامية النافعة في المجال.

4. عدم سكوت العلماء عن كل ما من شأنه أن يهدد المسار المشرق للمغاربة في فطرتهم ودينهم ويجعلهم ألعوبة في يد المواثيق الدولية المفروضة فرضا على أسرهم ومجتمعهم خاصة ما يستجلب غضب المولى عز وجل ويؤدي إلى الأفول الحضاري لا قدر الله.

5. اليقظة الشعبية الاجتماعية لتمكينها من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي تعطي لأي تعديل قانوني في أي مجال من مجالات الحياة معنى حيويا استشرافيا نحو الأفضل، لا الزج بالشباب في مهاوي التيه والضياع، فكل أمة ذات كيان يقظ لا تقبل المساومة على مقومات هويتها المتمثلة في دينها وخصوصياتها الأخلاقية والقيمية والثقافية.


[1] موقع العرب: rb.gy/2i3ldi
[2] نفسه.
[3] موقع الألوكة: https://shorturl.at/bzESU