غزة المحاصرة وثالوث الشر

Cover Image for غزة المحاصرة وثالوث الشر
نشر بتاريخ

لعل الهجوم الأخير للكيان الصهيوني الغاصب على غزة، يعد محاولة أخرى للإجهاز النهائي على الحلم العربي الذي تحقق ربيعا أسقط رؤوسا طالما انحنى لها الناس خوفا ورهبة، هجوم مرتب بعناية بالغة قصده النيل من نفسية شعوب المنطقة والعودة بهم لنقطة الصفر، بعد مخلفات رياح خريف جاء قبل حلول وقته بانقلابات وثورات مضادة، ذبلت معه الكثير من أزهار الربيع العربي.

فهاهي الآن معالم الهجوم المضاد بدأت تتضح، بعد تكتيك دفاعي فرض نفسه على القوى المتحكمة في المنطقة من آثار ذلك الزلزال السياسي الذي هز الشرق الأوسط ومعه كل العالم العربي.

أطراف لا يَسُرها اختلال التوازن لصالح طرف تبطن له كل العداوة وتضمر له الكثير من الكيد، شرعت وبخطوات جد سريعة في ضبط الأمور وإعادة رسم خطة الطريق بما يخدم مصالحها، بعدما تم تثبيت قواعد الانقلاب على ديمقراطية الربيع المصري، الذي لم تكن نخبته في مستوى اللحظة التاريخية، ولم تتعاون فيما بينها بما يكفي لإدارة ما بعد رحيل رأس الفساد.

خرج المتآمرون بأبشع الوجوه في تاريخ التدافع بين الحق الفلسطيني وباطل الصهاينة، لكن بتوقيع ممن كان يعرف بمحور الدول الصديقة، حرب على المكشوف بدعم عربي صرف وضع حماس ومعها غزة كمنظمة ومنطقة من سكنها ومن دخلها أو تبنى قضيتها يعد مفقودا أو منبوذا.

معنا أو مع الإرهاب

مقولة صارت مبدأ من مبادئ الحكم في عصرنا الحالي، يتابع بموجبه كل من خالف توجه دولة ترسي قواعد الحكم المطلق سواء كان المعني شخصا ذاتيا أو منظمة معترفا بها، فتجد الكل يتفوه بها ابتداء من أنظمة الاستبداد الناعم إلى الدول التي تحكم قبضتها بقوة الحديد والنار، حتى صار السيف مصلتا على رقاب الجميع لم يسلم منه حتى المنظمات الأهلية وبعض ذوي النيات الحسنة الذين كانوا يؤازرون قضية غزة المحاصرة.

لم تُجْد نفعا مقولة معنا أو مع الإرهاب الدولة التي صدرت منها، فكلفت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير في حرب خاسرة، جعلت اقتصادها ينحسر ويفقد الريادة الدولية بدخول منافسين كبار على الخط وحلول أزمة اقتصادية عاشها معها العالم بأسره، التجأت بعدها لدول النفط العربي للحد منها بضخ أموالهم لمعالجة بعض أثارها.

هذه الدول التي تتبنى هذا المبدأ الجديد، الذي أدخله بوش الابن لقاموس السياسة في العالم العربي وكل من يقع تحت النفوذ السياسي لأمريكا، والذي تصطلي بناره غزة اليوم عقابا لها على تمسكها بحركة حماس ودعما للشرعية التي جاءت بها عبر صناديق الاقتراع، إضافة لضريبة تعاطفها مع الثورات العربية التي يجري اليوم محاولات لوأدها في المهد تحت مرأى ومسمع العالم.

ولعل ما سرع بالتخلص من أول حاكم مدني منتخب بمصر، هو ذلك الموقف القوي الذي اتخذه إبان الهجوم على غزة في بداية ولايته بـإرساله لرئيس وزرائه السيد قنديل وتوالي زيارات وزراء خارجية بعض دول الربيع في دعم سياسي واضح جعل الكفة تميل جهة حركة حماس وغزة التي كانت تتساقط الحمم فوق رؤوس ساكنتها، مما جعل التعاطف يتزايد معها ويأخذ صبغة عالمية أحرجت «إسرائيل» وحلفاءها. زيارات خلفت استياء خصوم غزة وسجلت كنقاط سلبية على ربيع بدأ متمنعا يقف في جبهة المقاومة ضد المدللة «إسرائيل».

ثالوث الشر

إن الصمود الذي أبانت عنه حماس بدعم قوي والتفاف شعبي شكل نواة صلبة تكسر عليها كل ما حيك ضدها من المؤامرات ولم ينفع معه كيد الليل والنهار.

يبدو أن الاتجاه الآن للحسم مع المقاومة الفعلية في فلسطين أو إضعافها في أقل الأحوال بما يخدم الأهداف الإستراتيجية للكيان الغاصب ويسمح لفصيل المفاوضات بأخذ المبادرة ميدانيا وسيادة الساحة من جديد، وذلك في ظل انحصار نطاق جبهة الممانعين خاصة بعد الشرخ الذي وقع لها بسبب الأزمة السورية ودخول “حزب الله” كطرف فيها، وتحوله جهة سنة الشام في حرب لما تضع أوزاها بعد. لتتسيد الأجندة الصهيونية، التي ترى أن الظرف ملائم لـدك غزة وضرب ترسانة المقاومة وإضعاف القدرات العسكرية التي تملكها.

هجوم سبقه تهيئ الأجواء من لدن دول الخليج التي ترى في حماس الشر المطلق، وتكفي الإشارة هنا لتصريحات ضاحي خلفان التي تم تناقلها على أوسع نطاق حيث اعتبر حركة حماس أشد خطرا عليهم من دولة «إسرائيل»، إضافة إلى الحرب المفتوحة التي شنها قادة الانقلاب في مصر على الحركة وإدراجها كمنظمة إرهابية، كنوع من رفع الغطاء السياسي الذي شمل حماس وغزة بعد ثورة 25 يناير 2011، إضافة لمنع كل مبادرة إنسانية تتجه إلى غزة منذ لحظة الانقلاب، وآخرها منع القافلة النسائية المتزامنة مع يوم الثامن مارس اليوم العالمي للمرأة، حيث لم يسمح للوفد النسائي الأوروبي بمغادرة باحة مطار القاهرة وعاد من حيث أتى دون السماح له بدخول الأراضي المصرية فضلا أن تطأ أقدام أعضائه أرض غزة.

هذا بالتزامن مع تصنيف حركة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية في السعودية والإمارات المتحدة والبحرين، وآخرين الله يعلمهم. ولا يخفى على أحد المشرب الإخواني لحماس مما يعطي صورة عما يحاك ضد القطاع.

وهدنة إلى حين..

إن إبرام الكيان الغاصب لهدنة جديدة مع فصائل المقاومة، بعد عملية جس النبض التي قام بها طيرانه الذي حلق عاليا مستهدفا عدة مواقع، في أسلوب هو أقرب للمسح الطبوغرافي الذي يكتشف ما بقي من إمكانات بشرية وحيوية بالقطاع، بما يشبه الإعداد القبلي لحملة عسكرية تلوح في الأفق، يتم الإعداد لها على قدم وساق وتضطلع مصر بدور ريادي فيها، عبر خنق كل منافذ غزة، وإضعافها اقتصاديا بتشديد الحصار عليها، وباقي المهمة تكملها “إسرائيل”.

الله معهم

إن الحساب الأرضي للأشياء يستثني كل ما هو مرتبط بالسماء، فيخيل لهم أن ما يقومون به من تخطيط لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كعادة المستكبرين على مر التاريخ في التعامل مع المستضعفين وكل الحركات المناوئة لهم.

لعل الظروف تخدم «إسرائيل» والحلفاء العرب الذين يحزنهم بقاء المقاومة حية لها أرض تحميها ووطن يجمعها ومقاومة تبعث الأمل في شعوب يحكمونها، ويريدون فطامها عن أشياء اسمها النخوة والكرامة والحرية التي ينشرح لها قلب كل إنسان حر.

فهم اليوم يضعون أيديهم بشكل مفضوح في يد الغاصب، دون حاجة لستر الوجوه كما كان من قبل، وهاهي الفرصة مواتية للإجهاز على مقاومة فقدت الدعم والنصير وعصفت الرياح بما يشتهي خصومها.

إلا أن ما يميز المقاومة في غزة هو ارتباطها بمسبب الأسباب سبحانه، واقتداؤها بنبيها صلى الله عليه وسلم الذي قال لصاحبه في الغار حيث لا معين ولا نصير لا تحزن إن الله معنا [التوبة، 40]. وقال لابن عمه عبدالله ابن العباس:

“يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ” 1 .


[1] رواه الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع.\