غلاء الأسعار محاولة للفهم

Cover Image for غلاء الأسعار محاولة للفهم
نشر بتاريخ

غلاء الأسعار هل هو قدر محتوم ينبغي أن يطبع الفقراء معه وأن يحملوا وحدهم فاتورته مهما ارتفعت؟ ألا يمكن تفسير أسبابه للمواطنين ونشر معطيات واضحة ودقيقة بخصوصه؟ أم إنها معطيات تتحول في غياب شفافية التدبير وغموض الأرقام إلى حجج ومبررات لإطلاق يد المحتكرين والمضاربين في السوق، ومظلة للوبيات الاقتصادية لتبرير زيادات غير مشروعة ولا مستحقة؟ أيصح أن نربطه ونبرره بتقلبات السوق العالمية والأزمات الدولية فقط أم أن هناك عوامل محلية أكثر تأثيرا؟ ثم إن السؤال الأعمق الذي ينبغي أن يطرح ألا تمتك الدول أدوات ووسائل مالية وقانونية ومادية قادرة على الحد من تداعيات غلاء الأسعار على الطبقات الفقيرة؟ وإذا كانت تمتلكها، فما يمنعها من استعمالها، أهو الخضوع لسيطرة لوبيات الاقتصاد والمال والفساد محليا، أم إنها نتائج التبعية لقرارات وإملاءات الخارج؟ أم هو عدم امتلاك للإرادة السياسية وغياب للقدرة التنفيذية والإدارية، وعدم انحياز للفئات العريضة من الشعوب وتفريط في الحرص على مصالحهم وحاجياتهم؟

غلاء الأسعار والأسئلة الحقيقية

يحلو للبعض من سياسيين واقتصاديين واجتماعيين أن يضخم موضوع غلاء الأسعار ويعقده ويحيطه بالطلاسم والألغاز، ويغرق في التفاصيل والأرقام والإحالات والتعليلات والتبريرات، والحديث عن قواعد الاقتصاد وقوانين السوق، والأزمات الدولية، والإكراهات البنيوية المحلية، وهم بعض تحكمه حسن النية وسذاجة المنطلق من أرضية حددت له سلفا وقواعد وضعت ليفكر من خلالها، وبعض أكبر هو المتحكم في قواعد اللعبة نجح إلى حد بعيد في جر العديد من الاقتصاديين والمحللين إلى ميدانه وإقناعهم باختياراته وبالتسليم لها رغبا أو رهبا أو حتى اقتناعا صادقا، بدعوى الواقعية والموضوعية، ولا يجرؤ كثير منهم على طرح الأسئلة الحقيقية البسيطة الساذجة حتى لا يُرمى بالعدمية والجهل ونقص الفهم وعدم الأكاديمية، من قبيل من المستفيد من موجة الغلاء؟ ألا يحقق المتاجرون في هذه السلع والمواد الأساسية أرباحا؟ هل تأثر هامش الربح لدى هذه الشركات والجهات المنتجة والمستوردة والمسوقة أم أن المستهلك وحده من يتحمل الفرق والتكلفة؟ هل تم احترام قواعد المنافسة القانونية والحقيقية؟

الجواب الواضح والشفاف عن هذه الأسئلة هو وحده الكفيل بتوضيح الصورة وإقناع المواطن البسيط بأن الغلاء مقبول ومنطقي وأن عليه أن يضحي قليلا وأن يتحمل نصيبه من حر الغلاء ولهيبه، وكل جواب غير ذلك إنما هو حقن إلهاء مخدرة تبرر الاستغلال الفاحش وتسوغه للناس، وتخفي حقيقة وجود طبقة من المضاربين والسماسرة و”طفيليات الريع” بين المنتج والمستهلك، وهم أكبر مستفيد من غلاء السلع الأساسية كالخضر والفواكه والأسماك مثلا 1.

غلاء الأسعار بين العالمي والمحلي

بالطبع لا يمكن لأي متابع منصف أن ينكر أن من بين أسباب ارتفاع الأسعار تقلبات السوق العالمية في مجالات الطاقة والمواد الأساسية كالبترول والحبوب والزيوت، والناتجة إما عن أزمات حقيقية، كالحروب والتوترات السياسية كحرب أوكرانيا، ومشاكل النقل العالمي والحاويات، أو وباء كورونا. لكن هذا الإقرار لا يلغي فرضية وجود إرادة لدى “لاعبين كبار” لإعادة ضبط الاقتصاد العالمي وفرض سيطرة اقتصادية واسعة، وهي طبقة أيضا لا تريد التخلي والتنازل ولو قليلا على هامش أرباحها، لهذا يظل سؤال المستفيد سؤالا مشروعا؟ وسؤال هامش الأرباح سؤالا مشروعا؟ لهذا أمام أزمة انقطاع إمدادات الغاز من روسيا على أوروبا، تعالت الأصوات للبحث عن آليات لضبط السوق العالمية المتمردة وتسقيف الأسعار وتوحيد خطط المواجهة، للخروج من الاستغلال الفاحش للرأسمالية السائبة.

إضافة إلى العوامل الدولية، بالطبع أيضا لا يمكن إنكار بعض الأسباب المحلية لارتفاع أسعار المنتجات كالتأثر بالكوارث الطبيعية من جفاف وفيضانات، وتضرر بعض المحاصيل إما بسبب بعض الفيروسات أو بعض الحشرات كالجراد وغيرها من الآفات، لكن هذا لا ينفي جملة من العوامل الأخرى المرتبطة بدور الدولة في ضبط توازن السوق والتحكم رقابيا في سلاسل الإنتاج والتسويق والاستهلاك، وهنا يطرح سؤال هل فعلا يخضع السوق المحلي حقيقة لقانون العرض والطلب؟ ألا تتدخل لوبيات الفساد “زواج المال والسلطة” في التلاعب بالأسواق؟ ألم تؤثر السياسات الفاشلة في مجالات الفلاحة والزراعة والاعتماد على الاستيراد بشكل متصاعد، وعدم الرهان على تحقيق الاكتفاء الذاتي في السلع والمنتجات الأساسية، لضمان الأمن الغذائي في بلد فلاحي كالمغرب؟ ألم يكن وضع خطط لضمان مخزون استراتيجي يجنب البلد هزات السوق العالمية لازما؟ لماذا اكتفت الدولة بالتفرج أو قامت بإجراءات محدودة، أوفي بعض الأحيان كاريكاتورية كجولات مراقبة الأسعار وتعليق لوائح الأثمان، التي جعلت المغرب أضحوكة، ففي كل دول العالم يواجه غلاء الأسعار باتخاذ تدابير حازمة وصارمة ومستعجلة، لا بتعليق قوائم الأسعار؟

إذن هناك فشل ذريع على جملة من المستويات:

–             سياسيا على مستوى التخطيط والتوقعات، والاختيارات الاقتصادية الكبرى.

–             إداريا على مستوى التنفيذ والرقابة، بامتلاك أجهزة وأدوات رقابية ناجعة وفعالة.

–             على مستوى استعجالية التدخل وسرعة المعالجة، وكفاءة تدبير الأزمات.

فعلى المستوى الأول أبان “مخطط المغرب الأخضر” مثلا، في بلد فلاحي كالمغرب عن فشل ذريع، لأنه عجز ورغم ضخامة الاستثمارات فيه 2، عن توفير الحد الأدنى من الاكتفاء في مجالات الألبان واللحوم والخضر والفواكه والحبوب؟ فهل كان هذا المخطط موجها للمغاربة أم لسوق أخرى ومستفيد آخر؟ بمعنى هل تضع الدولة بعين الاعتبار دورها الاجتماعي وتحدد انحيازها؟ هل هو للرأسمال المتوحش الفاسد أم للمواطن وللاستثمار والاقتصاد المواطن والمقاولة المتضامنة التي تؤمن بتقاسم أعباء الزيادات، وبتحمل تبعات إجراءات استثنائية ومؤقتة لفترات محددة؟

أما على المستوى الثاني، هل استطاعت أجهزة الدولة الإدارية والرقابية ضبط السوق والمتدخلين فيه، وتحديد العوامل المؤثرة في الزيادات بكل وضوح وبالنسب والمؤشرات؟ وهل استعملت أدوات الضبط الضريبي في إعادة ضبط الأسعار بخفض الرسوم والضرائب على المنتجات المحلية والمستوردة، أو الإعفاء المؤقت لبعض السلع؟ للأسف كل الوقائع تثبت العكس؛ فمثال تحرير أسعار البترول والمحروقات أكبر نموذج على أن التدبير كارثة بكل المقاييس وخضوع تام للوبيات المحروقات، وتصريح رئيس الحكومة بنكيران بخصوص ثغرات في الملف تكشف جزء من العشوائية المقصودة التي لم تخدم المواطن ولا الدولة، فحتى غرامات المخالفات لم تحصلها الدولة لحد الآن، وقس على ذلك الأدوية والاتصالات.

أما على المستوى الثالث، كيف دبرت الدولة الأزمة، هل معها بشكل استعجالي وبأسلوب استثنائي مبتكر وغير بيروقراطي، أم راهنت على الزمن وعلى تراجع أسعار الأسواق عالميا؟ وهل تعاملت بمرونة مع ميزانيتها العامة وقانون المالية، ففي الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار البترول ارتفعت فيه أسعار الفوسفاط 3، وعائدات السياحة 4 أيضا بشكل مماثل، فلماذا لم تقم الدولة بتعديل التوازنات بين فاتورة الفوسفاط والبترول وتخفض العبء على المواطن؟

اقتصاد الطاكسي

إن أقرب مثال على أسلوب التدبير الاقتصادي في المغرب، هو ما يمكن أن نسميه “اقتصاد الطاكسي”، فالطاكسي تتداخل فيه مصالح الدولة وشركات التأمين وصاحب الطاكسي، وصاحب المأذونية، والسائق، والمنادي، والمستهلك. فحين وقوع الأزمات كما في كورونا أو ارتفاع أسعار الوقود، يظل المتضرر هو السائق بتراجع المداخيل والمستهلك بارتفاع الأسعار 5، وباقي الحلقات لا تتأثر، وعلى رأسها صاحب المأذونية الذي لا علاقة له بدورة الإنتاج أصلا ويستفيد من ريع يعادل نصف المداخيل أو أكثر، والدولة أيضا لا تتنازل عن مداخيلها من ضرائب ورسوم، وشركات التأمين أيضا تتشبث بمداخيلها بل تزيد أحيانا، والأجدر أن تتدخل الدولة، لأن خدمة النقل هي خدمة عمومية واجتماعية، وتقوم بالقضاء على هذه الطبقات من “المستفيدين من الريع”، ثم تقوم بدعمها إما بمنح وتمويلات أو بتمتيعها بإعفاءات أو تخفيضات، أما أن تقوم بتقديم دعم على الغازوال غير شفاف ولا بريء، فنحن أمام احتمالين إما أن الدولة لا تمتلك الشجاعة لتصحيح الأوضاع، أو أنها لا تريد لكونها مستفيد، والدولة جيوش من الموظفين والمنتفعين بالطبع.

وحتى لا يظن ظان أننا نطلق الكلام على عواهنه كما يقال، نسوق بعض المؤشرات والإحصاءات الرسمية دوليا ومحليا.

مؤشرات وأرقام

في 2 يونيو 2023 نشرت منظمة الأغذية والزراعة 6 “الفاو” تقريرا عن مؤشرات أسعار الغذاء في العالم، حيث سجلت انخفاضا لافتًا بلغ 35.4 نقطة عن معدل مارس 2022، وتفسر الفاو هذا الانخفاض المسجل بهبوطٍ كبير في مؤشرات أسعار الزيوت النباتية والحبوب ومنتجات الألبان، وبشكل تفصيلي وسريع نتوقف مع بعض المؤشرات، لنقارن ونعرف هل تأثرت أسعار المنتجات الأساسية في المغرب بهذه الانخفاضات العالمية.

فمثلا سجل مؤشر أسعار الحبوب هبوطًا ملحوظًا قدره 25.3 % بسبب ارتفاع الإنتاج العالمي وتمديد مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب، كما انخفضت الأسعار العالمية للذرة بنسبة 9.8 %، وبالنسبة لأسعار منتجات الألبان نزلت ب 17.7 %، وأسعار السكر نقصت ب 30.9 %، وبالنسبة لأسعار منتجات اللحوم تراجعت بنسبة 4.1 %، في حين سجلت أسعار الزيوت النباتية انخفاضا نسبته 48.2 % في جميع الأنواع زيوت النخيل والصويا وبذور اللفت ودوار الشمس بسبب وفرة الإنتاج وتراجع أسعار البترول.

وبالطبع مراجعة سريعة لأثمان الحبوب والزيوت واللحوم والزبدة تؤكد بالملموس أن المغرب يتأثر بالأسواق العالمية في الزيادة فقط، أما التخفيضات فلا يسمع بها، وهذا ما تفضحه أسعار المحروقات التي لا تتراجع في المغرب أو تتراجع ببطء شديد زمنيا وسعريا، وكذلك باقي أسعار المواد الأساسية فالقمح لم ينزل عن 140 درهم للعبرة، وزيت المائدة 24 درهم للتر، والزبدة 110 درهم للكيلو غرام، والأجبان 110 درهم للكيلوغرام والحليب 8 دراهم للتر، رغم أن بعضها تراجع بحوالي النصف، وهنا المشكل الحقيقي، فكل يوم واحد من التأخير يعني إثراء فاحشا بملايير الدراهم للمتلاعبين بالأسواق أمام صمت حكومي إن لم نقل تواطؤا مكشوفا 7، بل وفي أحيان كثيرة خضوعا للوبيات المهنيين والمستثمرين بتفصيل قوانين على المقاس.

خلاصات

بعيدا عن تبرير الغلاء وتمريره أو شيطنته أو معاداته بدون منطق، حاول المقال طرح أسئلة في محاولة لفهم العوامل المتدخلة في رفع الأسعار المحلية والعالمية، منها ما هو مظروف بوقائع مؤقتة واستثنائية، ومنها ما هو مرتبط باختلالات بنيوية واختيارات سياسية كبرى، لكن النتائج في جميع الأحوال تكون وخيمة على استقرار المجتمعات وأمنها فتجارب التاريخ تربط الغلاء بالثورات والنزاعات وعدم الاستقرار، لأنه غالبا ما يكون الغلاء وارتفاع الأسعار نتيجة لتفاحش الشعور باستغلال فاحش وإحساس بانعدام العدل في توزيع الثروات والتضحيات، وهو شعور يغذيه بقوة تعطل أدوار مؤسسات الوساطة عن القيام بوظيفتها، كالبرلمان والأحزاب والنقابات وجمعيات حماية المستهلكين وهيئات المجتمع المدني ومجالس المنافسة والرقابة وغيرها، فتستعمل الشعوب سلاح المقاطعة ومواجهة الغلاء بالاستغناء في مرحلة أولى، ثم الاحتجاج في الشارع بعدها، لتصل إلى العصيان المدني، وبعدها تأتي الاحتجاجات العارمة الميدانية، التي تتحول المطالب فيها من الشق الاجتماعي إلى الشق السياسي بإسقاط الحكومات أو الأنظمة ككل، لأنها لم تستوعب الرسائل الموجهة إليها، وعندها يصير الأمن مقابل الأسعار، وهي الكلفة الأخطر والأكبر. لهذا على الأنظمة أن تستوعب بعض هذه الرسائل قبل فوات الأوان:

1. الرأسمال بطبيعته جشع ولا حدود لطموحاته ولا يمكن أن يتراجع عن سقف أرباحه إلا بقوة الدولة.

2. على الأنظمة أن تدرك أن الأصل في الحكومات أنها انتخبت أو فرضت أو منحت لخدمة شعوبها وليس لخدمة الرأسمال.

3. انخفاض الأسعار عالميا أحبولة تغري الدول بعدم الاستثمار في السلع والمنتجات الحيوية، مما يجعلها رهينة لتقلبات السوق.

4. مواجهة الأزمات بعقلية بيروقراطية دليل على التخلف وعدم المواكبة.

5. الاختيارات السياسية الكبرى التي لا توفر الغذاء والدواء في حده الأدنى ليست اجتماعية.

6. مقارنة الدول المتخلفة مع الدول المتقدمة في مدى امتصاص موجات الغلاء هو سوء تقدير ومقارنة لا تصح.

7. هامش الهذر الذي ينتج عن الفساد والرشاوي والاستثمارات الفاشلة عمدا هو عبء إضافي على الدول والشعوب.

8. كلفة الغلاء المادية يمكن تحملها إلى أقصى الحدود بشرطي الثقة المتبادلة والشفافية، وهو أمر مفقود للأسف.

9. الضرائب والرسوم من أقوى أدوات الدولة لتوجيه وضبط الاقتصاد وإعادة توزيع الثروة والاستثمار لو تقوم الدول بحسن توظيفها.


[1] حسب الظهير 1.62.008 يستفيد قدماء جيش التحرير من نصف مناصب سوق الجملة الخضر الفواكه والأسماك بالمغرب دون أن يكونوا طرفا في عملية الإنتاج
[2] كلف حوالي 10مليار دولار على مدى 12 سنة من 2012 إلى 2020 وتم الانتقال الآن إلى ” الجيل الأخضر”.
[3] مبيعات الفوسفاط ومشتقاته تجاوزت 77.8 مليارات درهم في 2022
[4] إيرادات السياحة بلغت 52 مليار درهم سنة 2022 وتحويلات الجالية المغربية المقيمة في الخارج حققت 71.4 مليار درهم.
[5] مثلا إذا أراد صاحب الطاكسي استعمال الطريق السيار يفرض على كل راكب 5 دراهم وتسعيرة الطريق السيار هي 12 درهم.
[6] https://www.fao.org/worldfoodsituation/foodpricesindex/ar/
[7] في قطاع الحبوب قامت الحكومة بإلغاء رسم الاستيراد المفروض على واردات القمح اللين والصلب، وقدمت منحة للمهنيين، على الواردات وعلى التخزين 25درهم للطن، ونوعت واجهات الاستيراد، لكن هذا لم ينعكس على المواطن، فالثمن في المغرب قفز من 2000 درهم إلى 8000 درهم للطن، في حين أنه عالميا لم يتجاوز 400 دولار للطن، دون الحديث عن عدم أحترام معايير الجودة العالمية بمحتوى بروتيني يصل إلى  11 % وأقصى رطوبة بنسبة 15 %