قراءة في آية: “اعملوا آل داوود شكرا”

Cover Image for قراءة في آية: “اعملوا آل داوود شكرا”
نشر بتاريخ

عناية الله بالأنبياء والمرسلين نعمة من نعم الله تعالى على عباده وأصفيائه. وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر قصص الأنبياء والمرسلين وخطاب الله تعالى لهم موجها ومرشدا ودالا على الخير، مخاطبا سبحانه وتعالى بالضمن جميع عباده الراجين عفوه ورضاه.

ندرج في هذا السياق خطاب الله تعالى لسيدنا داوود عليه السلام في قوله: اعملوا آل داوود شكرا، وقليل من عبادي الشكور (سبأ، 13).

1- السياق العام للآية

جاءت هذه الآية في سورة سبأ، وهي سورة مكية يركز الله تعالى فيها على بناء العقيدة السليمة من توحيد لله تعالى وإيمان بالغيب. كما يذكرنا فيها سبحانه بقضيتي البعث والجزاء، وكذا بآلاء الله وشمول علمه ودقته.

ويضرب الله جل جلاله المثل في هذه السورة بفريقين من الناس:

قوم سبأ: الذين كفروا بأنعم الله تعالى وأعرضوا، فكان جزاؤهم الخزي في الحياة الدنيا والآخرة لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (سبأ، 13).

وآل داوود: الشاكرين لأنعم الله تعالى، المؤمنين به سبحانه، فوجب لهم الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.

2- فضائل الله تعالى على آل داوود

سيدنا داوود؛ العبد الأواب قال فيه الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (ص، 17). وقد آتاه الله الملك والنبوة والحكمة وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء (البقرة، 251). وأمر سبحانه الجبال والطيور لتردد معه تسابيحه لجمال صوته الذي وهبه إياه الخالق جلت قدرته: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ (سبأ، 10). وكان عليه السلام يصنع الدروع فألان له ربه الحديد في يديه وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (سبأ، 10). نعم وفضائل من المنعم الذي لا تنفذ خزائنه!!!              

سيدنا سليمان: ذرية بعضها من بعض، نبي ابن نبي، من الفضائل العظمى التي سخرها له الله تعالى أن أمر الريح فكانت تمشي به حيث يشاء ولسليمان الريح غذوها شهر ورواحها شهر (سبأ، 12). وسخر له طائفة من الجن تعمل بأمره بإذن الله ومن الجن من يعمل بين يديه بأمر ربه (سبأ، 12). وكان عليه السلام يحاور الحيوانات والطيور والوحوش ويفهم لغتها. فضل من الله ومنة!!!

3- العمل تصديق وبرهان

بعد أن ذكر الله تعالى الفضائل التي أنعم بها على آل داوود خاطبهم اعملوا آل داوود شكرا، وقليل من عبادي الشكور (سبأ، 13).

يبدأ خطاب الله تعالى لآل داوود بـ”اعملوا” لأن العمل هو برهان وتصديق ما بالقلب. وعمل بني آدم قد يكون عملا صالحا موافقا لما أمرنا الله تعالى به، مخالفا لما نهانا عنه، فننال به الجزاء الموفور في الدنيا والآخرة. وإما أن يكون عملا سيئا مخالفا لما أمرنا الله به، وموافقا لما نهانا عنه، فيكون الجزاء غضب الله تعالى وسخطه. حفظنا الله وإياكم.

والعمل الصالح الذي يرضي ربنا يكون ربانيا إذا جمع بين:

– القربات الفردية المزكية للنفس المطهرة للقلب؛ من صلاة وصيام وذكر وقراءة للقرآن…

– والعمل الجماعي الاستخلافي؛ دعوةً إلى الله تعالى ومناهضة للباطل لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى.

ويجمع لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم روح وجوهر العمل الصالح في الحديث  المشهور: “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله ومن أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” (رواه الحاكم في مستدركه).

ويؤكد لنا الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين هذا المعنى في قوله “يجب على الذين آمنوا أن يعملوا الصالحات الكفيلة بفلاحهم فرادى في الأخرى وفلاح الأمة في مصيرها التاريخي” (المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا).

4- أفضل الأعمال ما كان شكرا لله تعالى

ويربط الله تعالى في هذه الآية الشكر بالعمل، بل ويعلمنا أن أفضل العمل ما كان شكرا لله تعالى ومحبة فيه. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه. فلما تسأله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لم تفعل هذا يارسول الله وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر” يجيبها عليه السلام: “ألا أحب أن أكون عبدا شكورا”.

ويجمع لنا الإمام ابن القيم الجوزية تعريف الشكر في كتاب مدارج السالكين بقوله: “الشكر هو ظهور أثر نعمة الله على لسان العبد ثناء، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة”.

فهي إذن منزلة تُطلب ومقام تشرئب له أعناق المؤمنين فيشمرون ويعملون لنواله.

وقد تجلت أمارات الشكر على سيدنا داوود عليه السلام، فكان قواما صواما ذاكرا مسبحا، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الصلاة إلى الله صلاة داوود، وأحب الصيام إلى الله صيام داوود. كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه. وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى” (متفق عليه).

وكان عليه السلام شجاعا لا يفر من ساحة القتال، وهو من قتل جالوت الذي طغى في الأرض. وجاء تكليفه بالخلافة من فوق سبع سماوات يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله فكان أعدل الناس، يضرب به المثل في إحقاق الحق وإبطال الباطل.

5- الأسرة في صلب مقام الشكر

وفي هذه الآية كان الخطاب الإلهي خطابا جماعيا، وجه فيه الله تعالى كلامه لأهل داوود حتى يعلمنا سبحانه أن الأسرة هي محور العمل التعبدي التغييري الفردي والجماعي. وقد استجاب سيدنا داوود لأمر الله تعالى فجزأ الصلاة على أهل بيته وولده ونسائه، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داوود قائم يصلي. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قالت أم سليمان بن داوود لسليمان: يابني، لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرا يوم القيامة” (رواه ابن ماجة).

امرأة صالحة؛ أم نبي وزوجة نبي عرفت أن شكر ربها يوجب صلاح الغرس وتعهده حتى يثمر الولد الصالح. فكانت الثمرة؛ سيدنا سليمان عليه السلام، “وورث سليمان داوود”. ورث الصلاح، والإنابة لله، والعدل في الأرض، والجهاد…

يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “الأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح” (تنوير المؤمنات).

فالأسرة نعمة والولد نعمة، والبيت نعمة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: “فإن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن تُرى عليه” (أخرجه أحمد والنسائي).

فلنري الله تعالى أثر نعمه علينا بجعل أسرنا محضنا للمحبة والطاعة والاجتماع عليه. في إطار من الرفق والرحمة واللين والاحتضان.

فالأسرة لبنة أساس الأمة، إذا صلحت صلحت الأمة، وإذا صلحت الأمة نلنا شرف تحقيق الغاية الاستخلافية في الأرض.

يقول ربنا سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها النار والحجارة (التحريم، 6)، فكانت الأسرة في صلب قربات المرء المؤمن.

ويثني الله تعالى على سيدنا إسماعيل قائلا: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (مريم، 55). نال مقام الرضى لاهتمامه بمصير أسرته الأخروي.

6- عباد الله الشاكرين قلة

وقليل من عبادي الشكور.

يؤكد لنا الله تعالى في نهاية الآية أن الشاكرين من عباده قليل، حتى نرفع هممنا ونشد العزم لنكون من أحبابه وأصفيائه.

جعلنا الله جميعا من المقربين آمين. والحمد لله رب العالمين.