نفحات رمضانية (1)

Cover Image for نفحات رمضانية (1)
نشر بتاريخ

هو رمضان إذن؛ شهر التوبة واليقظة من سبات الغفلات، شهر العطايا الربانية، ومحطة التزود، فيه تستريح الأرواح المنهكة بثقل الأجساد، وفيه تبصر عيون الفؤاد، هو رمضان وحسب، فمهما تكلفت الكلمات لن تفلح ولن تبدع في توصيف شهر الله.

هو مناسبة لتقلب دولة نفسك، وتلجم هواك، وتمسك بزمام رحلتك وتضبط بوصلة وجهتك، يا من تفرقت به سبل الحياة، وأنهكته الفتن؛ عد إلى ربك تائبا نادما تنتظم دنياك وتزهر أغصانها.

التوبة اعتراف بقبح الذنب، وندم على إتيان المعصية، انكسار أمام عزة الله وعظمته، وتوسل لواسع كرمه، تبدأ من هبة توقظ من القلب ما كان منه آسنا وتحرك فيه ما سكن بسبب الغفلة عن الله، وبسبب الكسل عن النهوض بأمانته، هي ترك لما قبح من الفعل، ورجوع إلى أعتاب باب الله تذللا وانكسارا بين يدي رحمته وغفرانه.

التوبة تخلية وتطهير تجلي عن الوعاء درنه، وتصفي معدنه من الشوائب، تعقبها تحلية وتعمير يعيدان للحياة معناها، وللوجود غايته، بإخلاص العبودية لله، فبها لا بسواها يتحرر الإنسان من القيود التي تسجن روحه وتشدها بثقل التراب لتخلدها إلى الأرض، بينما الروح تستنجد من سجنها ترجو عناق السماء.

وبين التخلي والتحلي، بين التطهير والتعمير، حبل إذا انقطع بتر الوصال، واستصعبت المعاني، وتعرجت الطريق بضياع صواها وعلامات تشويرها، ذاك حبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفيع المشفع، وسيلة كل تائب عائد إلى جناب ربه المنعم بالعفو كرما، صلى عليه الله ما طلعت شمس وما غربت؛ صحبته نبراس السالك في طريقه، ومحبته جلاء هم الكئيب من ثقل أوزاره، يده الشريفة ممدودة رحمة للخلق أجمعين فكيف بالمؤمن الآيب إلى رحاب الكريم سبحانه، هو جسر الأمان لكل نادم ومفتاح باب الله عز وجل إذا تعذرت المفاتيح.

التوبة قلب لدولة النفس الطاغية، فهي ليست طفرة تحدث في الزمن ثم تعبد طريق السالك، إنما هي عمل دؤوب ومشروع حياة، وسير على درب السالكين ممن اقتفوا منهاج رسول صلى الله عليه وسلم تتبعا لأثر القدمين الشريفتين، عمل لا ينتهي إلا بانتهاء الرحلة في الدنيا وتحرير الروح من سجن الجسد، إذ إن الهبة القلبية واليقظة الروحية تفقدان كل معانيهما إذا أعقبتهما العودة إلى نوم الغفلة، من ثم كان لابد للروح في مقاومتها من درع التربية الصاد لأخطار المسير، والطريق طويل متعرج يحتاج إلى زاد يكفي، وإلى رفقة تؤنس وتوقظ وتحفز..

التوبة قلب لدولة النفس بمعنيين تحملهما كلمة قلب؛ فهي انقلاب على ما مضى من عمر الإنسان من استهتار بمعنى وجوده على أرض الاستخلاف وحقيقة خلقه وجوهر العبودية الخالصة لله عز وجل، وانقلاب على استبداد النفس وتسلط الهوى والانحراف إلى نفق الأنانية المظلم كهفه، انقلاب يستبدل حكم الهوى بحكم الله طاعة واستجابة للنداء وامتثالا.

ثم إنها قلب لدولة القلب بما في قلب المؤمن من لطائف ربانية، ومن صفاء الفطرة ونقائها، تأخذ بتلابيب العقل فتقود زمامه لتجعله تابعا لشريعة الله، وتقود الجوارح فتجعلها خادمة لأمر الله ونهيه، مستجيبة للقلب في طهره ونقائه.

اللهم اجعلنا كذلك، وجد علينا بتوبة وأوبة نكون بها من الفائزين برضاك يا كريم.