نفيسة العلم

Cover Image for نفيسة العلم
نشر بتاريخ

محبة آل البيت والتعرف عليهم من صميم الدين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي. رواه الترمذي والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه وصححه السيوطي.

وقال عليه الصلاة والسلام: إني تارك فيكم ثَقَلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأ ضل. فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به. قال الراوي: فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهلَ بيتي، أُذَكِّرُكم الله في أهل بيتي! أُذَكِّرُكُمُ الله في أهل بيتي. عزاه السيوطي في الجامع الصغير للإمام أحمد.

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في أمر محبة آل البيت: إن حبل المودة والمحبة يريده الله ورسوله رباطا ممتدا بين أجيال المومنين، موصولا من قلب لقلب إلى منبع النور. الآصرة النبوية تضم إليها الأمة من قنوات الحب في الله، تخُصُّ بالوصية قنوات آل البيت وقنوات الصحابة (تنوير المومنات، ج 2، ص 15، على موسوعة سراج).

نفيسة العلم سليلة هذا النسب الطاهر وشخصية من الشخصيات الكاملة ونموذج المرأة المتوازنة، نعيش في أحضانها عسى أن ننال من معين صحبتها وشرف الاحتذاء بسيرتها الزاخرة بمواقف النساء السالكات طريق سعادة الدارين.

شرف الانتساب

السيدة نفيسة هي بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبى طالب، بذرة من البذور الطاهرة لآل البيت، حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أبوها الحسن الملقّب بـ(الأنور) شيخ بني هاشم في زمانه، كان إماما عالماً جليلاً، من كبار أهل البيت، ومن سادات العلويين وأشرافهم. وأمها زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، استنشقت هواء مكة الطاهرة مع ولادتها، ودرجت في أركانها إلى حدود السنة الخامسة من عمرها.

انتقلت بعدها إلى المدينة المنورة بجوار الروضة الشريفة، ولقنها أبوها أمور دينها، وحرص على تحفيظها القرآن وتعليمها وتلقينها الحديث وسير الصالحين. فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع إلى شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه، حتى لقبها الناس بلقب «نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج.

إذن بالزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم

تقدّم الكثيرون للزواج من نفيسة لدينها وعبادتها إلى أن خطبها ابن عمها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق لكن أباها الحسن امتنع عن تزويجها إياه.

خرج إسحاق حزينا والوجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى المسجد النبوي وجلس أمام الروضة الشريفة، وشكى همه وحزنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وحبيب رب العالمين.. إني أبثك لوعتي، وأنزل بك حاجتي، وأعرض عليك حاجتي.. ولطالما استغاث بك الملهوفون، واستنجد بعونك المكروبون، فقد خطبت “نفيسة” من عمي “الحسن” فأباها عليّ…” ثم سلّم وانصرف.

ولن يخيب من يلتجأ بك يا رسول الله، وحاشا أن تخذل من استغاث برحمتك يا حبيب الله. فما أن لاح الصباح حتى بعث إليه عمه الحسن وقال له: لقد رأيت الليلة جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة يُسلّم عليّ ويقول لي: “يا حسن زوّج نفيسة ابنتك من إسحاق المؤتمن”. فتمّ زواجها يوم الجمعة في الأول من شهر رجب سنة إحدى وستين ومائة للهجرة.

لم يستسلم إسحاق والتجأ إلى خير من يلتجأ إليه الملهوف، وتيقن بذلك الحسن من أن زواجا يأذن فيه رسول الله لن يكون إلا ميمونا مباركا فتراجع عن موقفه.

وبزواجهما اجتمع في بيتها نوران، نور الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، فالسيدة نفيسة جدها الإمام الحسن وإسحاق المؤتمن جده الإمام الحسين رضي الله عنهما. فأنجبت القاسم وأم كلثوم.

نفيسة العابدة

عُرف عن نفيسة بنت الحسن حسن عبادتها وتقواها ومصاحبتها لكتاب الله تعالى، فيُروى أنها لما كانت بالمدينة كانت تمضي أكثر وقتها في المسجد النبوي تتعبد. وتروي زينب ابنة أخيها يحيى المتوج قائلة: خدمتُ عمّتي السيدة نفيسة أربعينَ عامًا، فما رأيتها نامَت بلَيل، ولا أفطرت إلا العيدين وأيام التشريق، فقلت لها: أمَا ترفُقِين بنفسِك؟ فقالت: كيف أرفُق بنفسي وأمامي عَقَبات لا يقطَعُهُنّ إلا الفائزون؟ وكانت تقول: كانت عمتي تحفَظ القرآن وتفسِّره، وكانت تقرأ القرآنَ وتَبكي.

وقيل أنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديدًا. كما ذكروا أنها حجّت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية، كانت فيها تتعلق بأستارالكعبة وتقول: إلهي وسيدي ومولاي متعني وفرحني برضاك عني، ولا تسبب لي سبباً يحجبك عني.

نفيسة الزاهدة

وعلى الرغم من أن السيدة نفيسة نشأت في بيت أبيها، يحيط بها مظاهر الترف، إلا أنها آثرت الزهد والتقشف، فكانت قليلة الأكل، ويروى أنها كانت تأكل كل ثلاثة أيام مرة. وكانت لا تأكل إلا من مال زوجها، أو ما يأتيها مما تغزله بيدها.

نفيسة العالمة

كانت عالمة جليلة، عابدة ورعة، وتقية زاهدة، حفظت القرآن وخبرت تفسيره.

كانت لها مكانة في قلوب المسلمين عامة، والمصريين خاصة. وكان أهل مصر يلتقونها في موسم الحج، ويسألونها زيارتهم في بلدهم لكثرة ما سمعوا عن فضلها وعلمها.

انتقلت إلى مصر بعد أن تقلبت الأحوال بآل البيت، وعُزل والدها الحسن الأنور عن ولاية المدينة.

وفي مصر راح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها. يأخذون عنهما العلم والفقه والحديث حتى ازدحم وقتها وشغلها ذلك عن أورادها، فحددت لهم يومين في الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة.

قبلة للمشايخ والعلماء

يعتبر الإمام الشافعي أكثر العلماء جلوساً إليها وأخذاً عنها، فقد اعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط، وفي طريق عودته إلى داره، وكان يصلي بها التراويح في مسجدها في شهر رمضان، في الوقت الذي بلغ فيه من الإمامة في الفقه مكاناً عظيماً، فقد كان يعتبر مجلسه في دارها مجلس تعلم عنها، ومجلسه في مسجد الفسطاط مجلس تعليم الناس.

وكان الإمام الشافعي في زمانها إذا مرض يرسل لها ليسألها الدعاء فلا يرجع الرسول إلا وقد شفي الشافعي من مرضه، فلما مرض مرضه الذى مات فيه أرسل للسيدة نفيسة يسألها الدعاء كعادته فقالت: متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم، فعلم الشافعي بدنو أجله، وأوصى الشافعي أن تصلي عليه السيدة نفيسة في جنازته، فمرت الجنازة إلى دارها فصلت عليه حين وفاته تنفيذاً لوصيته.

وكان بشر بن الحارث يعودها لشؤون علمه، واستجار بها لتقواها الإمام أحمد بن حنبل في أن تدعو له بالمغفرة.

نفيسة المجاهدة

كانت شديدة في الحق لا تهاب الأمراء، فقد ذكر المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني في تاريخه أن الناس استغاثوا بنفيسة بنت الحسن من ظلم أحمد بن طولون فكتبت له رسالة، وانتظرت حتى مرور موكبه فخرجت له، فلما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الرسالة، وكان فيها: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخوّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفّاذة غير مخطئة، لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون! فخشع ابن طولون لقولها، وعدل من بعدها.

نفيسة زوجا وأما

كانت من أفضل النساء في رعاية زوجها وبيتها وأسرتها، ومن أحسنهنَّ إتقاناً لفنِّ إدارة المنزل الذي كانت تعمره بالعبادة والذكر والتربية الحسنة، وحسن التعامل مع زوجها الذي كان يسعد بها كلَّ السعادة ويصرِّح لها بجمال ما أودع الله فيها من صفات حسنة شكلاً ومضموناً، فما تردُّ عليه إلا بوجهٍ بشوش، وكلماتٍ راقيةٍ تدل على أدبها الجم.

وكانت صاحباتها يجدن من الأنس بمجلسها ما لا يجدنه عند غيرها، وتجد صدورهنَّ من الانشراح وقلوبهنَّ من الارتياح ما يجعلهن ينظرن إليها نظر التلميذ إلى شيخه. وكانت تغمر من يجلس إليها بالمودة، وتُفيض عليهن من التوجيه والعلم.

التحاقها بربها

أصاب السيدة نفيسة المرض في شهر رجب سنة مائتين وثمان للهجرة، وظل المرض يشتدّ ويقوى حتى رمضان، فبلغ المرض أقصاه، وأقعدها عن الحركة، فأحضروا لها الطبيب فأمرها بالفطر، فقالت: واعجباه! إن لي ثلاثين سنة وأنا أسأل الله أن يتوفاني وأنا صائمة، أفأفطر؟ وكان وراء ستار لها قبر محفور، فأشارت إليه وقالت: هذا قبري، وها هنا أُدفن إن شاء الله، فإذا متُّ فأدخلوني فيه. فلمّا فاضت روحها الطاهرة الشريفة دفنت في قبرها الذي حفرته بيدها، فتوفيت رحمها الله في مصر في رمضان سنة 208 هـ، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا، وكان يوم دفنها مشهودًا، ازدحم فيه الناس لتشييعها. ولنفيسة بنت الحسن جامع مشهور في مصر يختلف إليه الكثيرون من مريدي السيدة نفيسة.

رحمك الله نفيسة العلم، والعبادة، والزهد، والجهاد، والرحمة.

إلى مثلك من الكاملات تشرئب أعناق المومنات الطالبات لمعالي الدنيا والآخرة.

إلى مثلك من الصالحات نتوق لنقتحم عقبات الجهاد والمجاهدة.

فهل من جهاد يلحقنا بك وبأمثالك من المجاهدات الباحثات عن المعالي؟

رحم الله الإمام المجدد إذ قال: إلى النماذج الكاملة من بنات البشر تشرئب أعناق المؤمنات، وإلى جهاد يُلحقهن بهن -على درجة من الكمال- يتعبأن ويعبِّئن أجيالا. باحتذاء النماذج الأكمل، وهم الرسل عليهم السلام، وبصحبتهم والاتصال بهم أمهات وزوجات وبنات، نالت مريم وآسية وخديجة وفاطمة وعائشة كمالهن. أَفإن كانت تلك الكوامل يَخْتَرِفن من تَمْر النخل طعاما، وتعتبر إحداهن مدين من الشعير مَأدبةً، ويَسْكُنَّ بيوتاً يقف الغلام فتبلغ يدُه سقفها، ويلبسن الخشِن، ويركبن الإبِل لا الطائرات والصواريخ، يطغى علينا الميزانُ الماديُّ فنطرح في الاعتبار الإيمان بالله وباليوم الآخر، وطهارة القلوب وسموّ الخُلُق، والقرب من الله عز وجل وهو غاية الغايات؟ (تنوير المومنات، ج 2، ص 289).