قد يستغرب أحد الرغبة في كتابة وتدوين تجربة حزينة مع وباء لم يحمل في نفوس الناس إلا ذكريات سيئة ومؤلمة؛ من فقد الأحباب وحبس في البيوت وقلق في النفس وتهديد للحياة، وإنهاك للاقتصاد…
قد يكون الأمر مدعاة للاستغراب إن لم نعرف أن لله عز وجل في خلقه سننا لا تتبدل ولا تتغير ، ومن هذه السنن؛ سنة الابتلاء وسنة الاعتبار. يقول الحق عز وجل في محكم آياته: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ والثمرات * وَبَشِّرِ الصَّابِرِين الذين إذا أصابتهم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون (البقرة، 156 – 157).
ومن باب الاعتبار بالابتلاءات التي يمتحن الله عز وجل بها عباده عزمت على كتابة هذه السطور لأعبر فيها عما عشته من معان إيمانية قلبية أنعم الله بها علي أثناء المرض ومتابعة العلاج والحجر في البيت، لعل الله عز وجل ينفع بها من يعتبر.
وقبل سرد هذه المعاني لابد أن أشير إلى أن تجربتي مع هذا المرض بدأت بمعاناة كبيرة مع الشعور بحمى شديدة في جسمي وآلام عاصفة في ظهري، لأفقد بعد ذلك حاستي الشم والذوق اللتين كانتا علامة إنذار لإجراء التحاليل. ولا أخفي سرا إن قلت إنني عشت حالة من القلق والارتعاش قبل ظهور النتيجة، ازدادت حدتها بعد تأكد الإصابة بالفيروس، وانتابني شعور قوي بالتفريط في حق الله والتقصير في جنبه عز وجل. وهذا راجع إلى الطبيعة البشرية التي تتسم بالضعف والنقص، حتى إذا انتابها والعجز والوهن استشعرت النواقص وتمنت الاستدراك.
وهذا أول الدروس التي قصدت تقاسمها مع الأحباب من وراء كتابة هذه التجربة:
الشعور بالضعف والافتقار إلى الله عز وجل: وهو حكمة إلهية ماضية في حكمه وقضائه بابتلاء البشر؛ إذ استشعرتُ إرادة الخالق عز وجل ومشيئته في تدبير شؤون خلقه وملكه؛ كيف شاء ومتى شاء وبما شاء سبحانه؛ فرغم ما يقوم به الإنسان من إجراءات وقائية واحترازية، والتي يجب علينا الالتزام بها شرعا من باب الأخذ بالأسباب، يأتي الابتلاء والمرض ليعلماننا أن إرادة الحق فوق كل الأسباب، وأن الله سبحانه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون. وهذا الأمر جعلني أزداد يقينا في الله تعالى وأشعر بالضعف والافتقار والحاجة إليه سبحانه، وأظهر الحاجة إليه دون سواه، وأتضرع إليه بالطلب والدعاء لرفع هذا الوباء عني وعن أسرتي وجميع أحبابي، بل وجميع البشرية.
وهذا الضعف جاد علي بنعمة قلبية أخرى هي:
استشعار نعمة الصحة والعافية وشكر الله عليها: عند الابتلاء بالمرض يستشعر الواحد منا حلاوة النعمة التي كان ينعم بها في حالة الصحة والعافية والقوة، ويتمنى عودتها من جديد، فيرجو الله الشفاء بإلحاح كبير ويتوسل إليه عز وجل ليرفع عنه الآلام والوهن، ويلتمس الدعاء من الوالدين والصالحين ومن كل من يتوسم فيهم الخير، وتتحرك في قلبه معاني الرحمة بكل من يعانون أمراضا تصاحبهم طيلة حياتهم، وبمن يرقدون أياما طويلة في أسرة المستشفيات، وبمن استسلم جسده للمرض وبقي طريح الفراش شهورا وسنوات.
وفي هذه الحال تتحقق معاني إيمانية عظيمة ترتقي بالمؤمن إلى مقام التقرب من الله، كإظهار العبودية له سبحانه بالدعاء وشكر النعم ورحمة خلق الله والتهمم بهمومهم.. وتتحقق الذات الواحدة والجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما وصف رسول الرحمة المؤمنين في الحديث الشريف “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (أخرجه مسلم).
وذلك درس ثالث استفدته من تجربتي مع وباء كورونا، وهو قيمة المواساة في تنفيس الكرب وتخفيفه: يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة” (رواه مسلم).
وأشهد الله تعالى أنني ما كنت لأقوى على تجاوزمحنة المرض لولا مواساة الأحبة وحسن تفقدهم وتهممهم بي، من الأهل والأقارب وزميلات المهنة وكل من تجمعني بهم الصحبة الطيبة وعلاقة المحبة في الله والأخوة فيه والانجماع عليه عز وجل، فأعظم نعمة تستوجب الحمد والشكر – بالنسبة لي – نعمة وجود أناس في حياتك يحبونك ويظهرون هذه المحبة ويتألمون لألمك ويفرحون لفرحك ويدخلون السرور والسعادة عليك ويثبتونك ويأخذون بيدك لتطلب ما عند الله…
وهذا حقا مما أفرحني طيلة فترة المرض وخفف عني آلامي، كيف لا ورسائل من أعرفهم من أطر الصحة تبعث في نفسي الأمل والاطمئنان وتخفف من حدة الآلام النفسية بنصائحهم الواعية بأن رسالتهم السامية هي تطبيب القلوب والنفوس قبل الأجساد. كيف لا والأحبة الكرام يتفقدون أحوالي كل وقت وحين بعبارات تحرجك وتجعلك تشعر بالفرحة والحبور لما تحمله من معاني الحب والود والرقة والدعاء بالشفاء العاجل.
وما يعجل بالشفاء حقا، تلك الكلمات الطيبة التي كانت تصدر من أفواههم لتنصح بدوام الذكر والإكثار من تلاوة القرآن والإلحاح في الدعاء واليقين في الاستجابة. إنها معاني الأخوة في الله والتحاب في الله والتزاور في الله التي تستوجب البشارة النبوية لأصحابها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه عز وجل: «حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتبادلين في. المتحابون في على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء» (رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم).
دون أن أنسى أن المرض كان فرصة ثمينة لاستشعار الأنس بالله: وذلك معنى ما فهمت مضمونه يوما من الأيام، عندما كنت مع إحدى المؤمنات نتقاسم هموم الحياة المشتركة، فالتمست مني -على عادتنا عندما نريد الافتراق- الدعاء لها بالأنس بالله، وأعظم به من طلب. فلا ترتقي نفس لمثل هذه الغاية إلا إذا كان لها سر مع ربها. وحقا يستشعر المؤمن هذا الأنس عندما يجدد توبته مع الله ويعلن تفريطه وتقصيره في حقه عز وجل، ويغتنم فرصة المرض والمكوث في البيت ليجعل له خلوة مع الله تعالى يسائل فيها نفسه ويزكيها ويطهرها ويحاسبها ويحبسها ساعات لتذكر الله تعالى؛ حتى تشفى النفس من السقم وتتطهر الروح من الغفلة ويطمئن القلب ويسكن الفؤاد. قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد، 28). فكم من قلب سليم مطمئن بذكر الله تغلب على أسقام وعلل كثيرة.