نقصد بالانكسار التاريخي الفتنة التي نشبت بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ بموجبه سيعرف التاريخ تحولات خطيرة أثرت على حياة المسلمين وفكرهم وسلوكهم، وستظهر عصبيات ونعرات قبلية، وينقسم المسلمون وينفرط عقدهم … ولا يمكن أن نفهم واقع المسلمين المعاصر إلا بفهم سديد لما جرى من قبل، ولهذه التطورات … كما أننا لا يمكن أن نتكلم عن قضايا المسلمين، أيًّا كان نوعها، دون استصحاب هذه التحولات التي ينبغي أن تكون محددة لفكرنا وحركتنا في هذا الواقع الغريب والعجيب. ولم يزدد واقع المسلمين اليوم اضطرابًا وتعقيدًا إلا بغياب هذه الرؤية التاريخية لما حدث في أمس المسلمين. فكم من الاختيارات الفاشلة تعاد اليوم، وكم من المواقف القديمة التي زادت في تفريق المسلمين في الأمس يقفها كثير من الناس!!
أحاول هنا أن أعرض لأهم هذه التحولات التي تشكل معالم أساسية لفهم تاريخ المسلمين وللواقع المعاصر لتجنب الوقوع مرة أخرى فيما سبق، وحتى “لا يعيد التاريخ نفسه” كما يقال.
أولا: انقلاب الخلافة إلى ملك
بعدما عاش المسلمون أعوامًا في ظل النبوة والخلافة الراشدة، حيث القرآن حاكم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم متبعة، والدولة خادمة للدعوة وحامية لها، حدثت في تاريخ المسلمين صدمة كان لها أسوأ الأثر على حياة المسلمين، دنياهم وأخراهم، إذ انتقضت عروة الحكم وتحولت الخلافة إلى ملك عاض ثم جبري يكتوي بلظاه اليوم الحركة الإسلامية والعلماء العاملون … وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك هم من عنى الله بقوله عز وجل: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة (البقرة: 30).
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه التحولات ووضح ملامحها وخصائصها حيث يقول: “تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله ُأَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ” [1].
هذا الحديث يبين المراحل التي تمر منها الأمة الإسلامية، وهي ولاشك مراحل تتميز كل واحدة عن التي تليها تميزًا على جميع المستويات، سواء في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو في علاقة الدنيوي بالأخروي…
ويؤكد هذا التحول ويبين خطره حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ليُنقـَضَنَّ عُرَا الإسلام ِعروة ًعُروة، فكلما انتقضت عُروة ٌ، تشبَّثَ الناسُ بالتي تليها، وأولهُنَّ نقضاً الحُكم، وآخِرُهنَّ الصلاة” [2].
فمرحلتا النبوة والخلافة الراشدة، هما مرحلتان متقاربتان، إذ إن الخلفاء الراشدين كانوا على منهاج نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أوصى النبي باتباع سنتهم، كما في الحديث الذي مر بنا سابقًا.
وفي حديث آخر يزيدنا دقة قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُمْهَان: حَدَّثَنِي سَفِينَةُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الْخِلافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِك”. ثُمَّ قَالَ لِي سَفِينَةُ: أَمْسِكْ، فَأَمْسَكْتُ خِلافَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَخِلافَةَ عُمَرَ، وَخِلافَةَ عُثْمَانَ، وَخِلافَةَ عَلِيٍّ، فَوَجَدْتُهَا ثَلاثِينَ سَنَةً .قال سعيد: فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم! قال: كذبوا، بنو الزرقاء! بل هم ملوك شر الملوك!” [3].
وأما مرحلة الملك العاض، فهي مرحلة جاءت بعد الخلافة الراشدة، بدأت بحكم معاوية. والملاحظ أننا لا نجد في تعبير النبي صلى الله عليه وسلم لفظ “الخلافة” في هذه المرحلة، وإنما نجد لفظ “الملك”، وهذا بيان واضح في الفرق بين المرحلتين.
فالخلافة كما يعرفها ابن خلدون: “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به… وأما الملك، فهو طبيعي وسياسي، فالطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار” [4].
يكشف لنا تعريف ابن خلدون عن حقيقة يصعب على كثير من الناس التسليم بها وهي أن ارتباط الغاية الدنيوية بالأخروية تختلف بحسب نظام الحكم، خلافة أو ملكًا. فإذا كانت الخلافة تحرس الدين وتسوس الدنيا به، فإن الملك يكتفي بالنظر في مصالح الناس الدنيوية، على أساس من النظر العقلي. وهذا يخبر بدخول العلمانية عقول المسلمين في وقت جد مبكر…
ويضع ابن خلدون للملك ثلاث صفات أساسية تكلم عنها في ثلاث فصول، وهي: الانفراد بالمجد، والترف، والدعة والسكون.
وعن جانب العدل يحكي ابن سعد في الطبقات: “أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة! فاستعبر عمر” [5] (بكى).
وقد نعت هذا الحكم بالعاض لحرص الحكام عليه، وطغيان العصبية، والاستبداد به، فكانوا يورثونه أبناءهم ويأخذون البيعة لهم بالإكراه.
وأما مرحلة الملك الجبري: فهي التي تلي هذه المرحلة، ويمكن أن نؤرخ لها بالصدمة الثانية الت يتعرض لها المسلمون والمتمثلة في دخول الاستعمار بلادهم وعقولهم. فانضاف إلى ما سبق تغيير حكم الله تعالى، كما سنرى لاحقًا، بقوانين وضعية مستوردة معززة باستبداد كبير وقمع واسع.
ثانياً: ذهاب الشورى وحلول الاستبداد
ما دامت الخلافة بعد الإمام علي كرم الله وجهه قد تحولت إلى ملك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالعاض، والعاض كما أشرنا هو الحرص على الحكم وتوريثه، فإن من اللازم أن تغيب الشورى ويحل محلها الإكراه والاستبداد، لأن طبيع الملك – كما رأينا – لا يمكن أن تتفق مع الشورى وهي الصفة الأساس في الخلافة.
لما توفي معاوية كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة: “أما بعد، فخذ حسينًَا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير أخذًا شديدًا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام” [6].
فلم يعد أمر المسلمين شورى واختيارًا، بل إكراهًا وشدة. وما هذه ببيعة! وإنما البيعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هي إعطاء صفقة اليد وثمرة القلب” [7]، أي عن رضًى وحب وسلامة قلب… وزاد في امتناع هؤلاء عن البيعة ما رأوا من انحراف يزيد وفسقه وفجوره وجوره. ولعل هذا ما يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث ويسميه بإمارة الصبيان أو الأغيلمة. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ”. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَمَا إِمَارَةُ الصِّبْيَانِ ؟ قَالَ: “إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ هَلَكْتُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ أَهْلَكُوكُمْ” [8].
وكان أبو هريرة يمشي في السوق ويقول: “اللهم لا تدركني سنة ستين وإمارة الصبيان”. قال الحافظ: وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، فإن يزيد استخلف فيها [9].
ويحدثنا أبو هريرة مرة أخرى ويقول: “سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ مَرْوَانُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ لَفَعَلْتُ فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مُلِّكُوا بِالشَّأْمِ فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَانًا أَحْدَاثًا قَالَ لَنَا عَسَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ قُلْنَا أَنْتَ أَعْلَمُ” [10].
ويحسن ابن خلدون وصف هؤلاء الغلمة الذين ملكوا قائلا: “صبي صغير أو مضْعَف من أهل المنبت، يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويوّرى بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد…” [11].
وهذا عبد الملك بن مروان، من ملوك بني أمية، يعلن عن سطوة السيف والاستبداد من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف، والله لن يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه” [12].
لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد وقال: “أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ”، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ إلَا أَنْ يَكُونَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَيَكُونَ صَيْلَمٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ” [13].
فهذا ابن عمر يجتهد في عدم خلع يزيد. لكن هذا الاجتهاد سيصبح من بعدُ أصلا ثابتًا رغم تغير الزمان والظروف، وهو ما سيعرف لاحقًا بجواز إمامة المستبد أو المستولي بالسيف. وهذا يتناقض مع الأحكام التي جاءت بها العقيدة الإسلامية في وجوب الأمن والعدل، وفي تحريم الظلم [14].
ثالثاً: ظهور عصبيات وطوائف ومذاهب
بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظهرت طوائف تنم عن عصبية متحكمة كان رسول الله عليه الصلاة والسلام ينهاهم عنها بقوله: “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ” [15]. فظهر الخوارج والشيعة والسنة. ولئن كانت الظروف السياسية هي التي أنجبتها، فإنها تحولت فيما بعد إلى فرق عقائدية يكفر بعضها بعضًا، بل ويحارب بعضها بعضًا.
وظهرت بعد ذلك فرق كلامية تراشقت بالكلام، من معتزلة وأشاعرة وماتريدية ومرجئة وغير ذلك… والتي لم يكن انعكاسها على الفكر الإسلامي عامة بالأمر الهين. وقد دفع ظهور هذه الفرق بالمسلمين إلى مناقشة قضايا لم يناقشها السلف، بل لم يكونوا يحبون الغوص فيها. لكن بعد الانكسار التاريخي أصبحت هي المهيمنة والشاغلة، من قبيل “الجبر والاختيار”، “مرتكب الكبيرة”، “العدل”… هذه القضايا كانت بالأساس من تحول الخلافة إلى ملك، واستبداد بني أمية واستئثارهم بالحكم.
فأما العصبية في الحكم، فيكفي ما بينا سابقاً.
وأما العصبية بين مختلف الفرق الإسلامية، فإن أمرها واضح تبينه مبادئ كل منها ولا ينكرها أحد.
رابعًا: فصل الدعوة عن الدولة
أرسل الله الرسل لبيان الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، فأوضحوا سبل تحقيق هذه الغاية بما أوحى إليهم الله عز وجل. هذه الغاية هي إخلاص العبودية لله تعالى، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون(الذاريات: 56). وكانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة ما بعث به الله عز وجل وأوحى.
ويمكن تمييز ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام إلى صنفين:
– ما يخص الإنسان وحده من أوامر لا تتعلق به ذمة غيره، وهي مسؤوليته كفرد مكلف.
– ما يخص الإنسان في علاقته مع غيره فتتعلق بذلك ذمم أخرى، وهذه مسؤوليته باعتباره فردًا في الجماعة.
هذان الصنفان رغم ما قد يكون بينهما من تداخل، إلا أننا يمكن من خلالهما أن نحدد الإطار العام لعمل الإنسان في هذه الدنيا: العدل، والإحسان، كما في قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 90).
فالإحسان: له علاقة بالصنف الأول، وهو مصير الإنسان في علاقته مع الله عز وجل، وهو أعلى مراتب الإيمان، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعدل: له علاقة بالصنف الثاني، وهو ما يجمع الإنسان بغيره، وإن شئت فقل: هو أدنى ما يمكن أن يجمع بين بني الإنسان.
ولكي يتم تحقيق العدل شرعت مجموعة من الأحكام تقوم بتنفيذها وتحرص على ذلك مجموعة من الأجهزة تضمها الدولة، أو قل هي الدولة.
وتأهيلا للغاية الإحسانية شرعت مجموعة من الأحكام والتعاليم تعد الإنسان للقاء الله تعالى وليس عليه وزر أو ذنب، وهذا ما يشرف عليه جهاز يسمى بالدعوة. ونؤكد مرة أخرى أن كلا الأمرين مرتبط ببعضه البعض، ولا يمكن الفصل بينهما عمليًّا وإن أمكن نظريًّا.
أو بعبارة أخرى: أن مسؤولية الفرد لا يمكن فصلها عن مسؤوليته داخل الجماعة.
ولئن كان الترابط وثيقًا بين الدعوة والدولة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة، وكانت الدعوة هي أصل الدولة وغايتها، فإن الأمر لم يكن كذلك بعد الخلافة الراشدة، إذ سيطرت الدولة على الدعوة وأقصتها لتسود طاغية مستبدة محكمة لغير الله عز وجل، بل ليحكم الهوى والتعصب.
فأمر الدعوة أصبح مهمة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فقط. وأما أمر الدولة فأصبح مهمة النظام الحاكم. فالدعوة بعد الانكسار التاريخي إما أن تخضع للدولة وتذوب فيها، وإما أن تضطهد وتحارب. ولا يمكن أبدًا أن ننكر ما كان لهذا الأمر من آثار سيئة على الفكر الإسلامي عامة، والاجتهاد خاصة، كما سيتضح لنا لاحقًا. ثم إن العلماء الذين نصحوا لحكامهم كان نصيبهم من العقاب وافرًا لم تغفله كتب السير والتاريخ…
وقد أخبر بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، حين قال: “خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّينِ فَلَا تَأْخُذُوهُ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ يَمْنَعُكُمُ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ، أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلَا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ. أَلَا إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَقْضُونَ لَكُمْ، فَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: “كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ” [16].
وفصل الدعوة عن الدولة هو ما يمكن أن نصطلح عليه اليوم بفصل الدين عن الدولة، وإن لم يكن بنفس الدرجة، ولكن يمكن اعتباره، كما سبقت الإشارة، علمانية غير مصرحة. ويؤكد هذا ما ساد في الفكر الإسلامي من تفريق بين السياسة الشرعية يختص بها الحكام وبين الفقه الذي كان من اختصاص الفقهاء.
لقد تشتت الفقه، وغاب الفقه الجامع الذي كان يتميز به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يجمع الدولة إلى الدعوة ولا يفرق بينهما.
وخلاصة القول: لقد عاشت الأمة مراحل حاسمة في تاريخها ما زلنا نعيش آثارها السلبية إلى اليوم، وتبدأ هذه المراحل بتحول الخلافة إلى ملك على يد معاوية. وقد نتج عن ذلك ملك عاض وملك جبري. ولكل هذا تأثيراته على المستويين الديني والدنيوي.
المصدر: موقع yassine.net
[1] مسند الإمام أحمد رقم 18434.
[2] نفسه رقم الحديث 22214.
[3] سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلافة.
[4] ابن خلدون، المقدمة ص 191.
[5] الطبقات الكبرى (306/3).
[6] ابن الأثير، الكامل في التاريخ (14/4)، ابن كثير، البداية والنهاية (146/8).
[7] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول.
[8] صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قال النبي صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء.
[9] ابن حجر، فتح الباري (10/13).
[10] صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قال النبي صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء.
[11] المقدمة ص 185.
[12] ابن الأثير، الكامل في التاريخ (150/4).
[13] ابن كثير، البداية والنهاية (231/8). ابن العربي، العواصم من القواصم ص 231.
[14] عبد المجيد النجار، في المنهج التطبيقي للشريعة الإسلامية.. تنزيلا على الواقع الراهن ص37.
[15] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله يقولون لئن رجعنا إلى المدينة…
[16] رواه الطبراني في الكبير رقم الحديث 172.