تكتسي التربية الإيمانية الروحية في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، المكتوب والمنطوق، أهمية خاصة، فالرجل جمع بين خبرة طويلة في مجال التربية والدعوة والتعليم متح فيها من مكتبة التراث التربوي الفكري عند المسلمين، وتجربة تربوية روحية عميقة وفريدة ذاق من خلالها حلاوة الصحبة والاجتماع على الله، وخبر كنهها، ولج منها إلى “عالم الروح وعجائب القلب واختصاص الله عز وجل من شاء من عباده بما شاء من مادة ترياق القلوب” 1، فكان ما جاء على لسانه مخطوطا في كتابه الإحسان “وُلدت الميلاد المعتمد في طريق الله على يد محسن من المحسنين، في ظل قلب تزكى لما زكاه الله” 2.
أثمرت هذه الطريق الطويلة من السلوك إلى الله تعالى، تربية وتعلما، صياغة مشروع تربوي متفرد؛ جمع فيه الإمام بين التأسيس الفكري الشامل والمتكامل المصطبغ بصبغة الربانية المهتدي بالسنة النبوية، والعمل الواقعي الميداني القائم أساسا على تربية الفرد الصالح تربية ترتقي في مدارج الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان. مشروع قوامه خطان رئيسيان؛ خلاص فردي يعنى بتزكية النفس وترقيتها الإيمانية الإحسانية في مدارج الدين، وخلاص جماعي هو “مشروع الجهاد بمعناه الواسع الذي يشمل جهاد الدعوة وجهاد البناء” 3، استفراغا للجهد في بناء الأمة على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدافعة للظلم الواقع عليها منذ الانكسار التاريخي الأول الذي زاغ بالخلافة الراشدة إلى ملك جبري ثم عاض كسر شوكة الإسلام ونقض عراه.
ويرتبط الخلاصان، في مشروع الإمام المجدد عبد السلام ياسين، ارتباطا وثيقا بحيث يفتل حبل كل واحد منهما في الآخر، لا ينفكان عن بعضهما، وهو ما أوضحه الإمام رحمه الله تعالى بقوله في كتاب الإسلام والحداثة: “خلاصي الفردي رهينٌ بالجهد الذي أبذله لكي تعلو راية الإسلام وتزدهر الأمة الإسلامية” 4، وفي كتاب الإحسان بقوله: “في مستقبل الإسلام نحتاج لِقران “الفطم” الفردي الأنفسي السلوكي بالفاعلية الجهادية، ليكون السلوك الإحساني عملا مصيريا رائده الفردي عبادة الله كأننا نراه، ورائده الجماعي إتقان الأعمال الجماعية لتحقيق إسلام العدل في الأرض وعمارتها والخلافة فيها” 5.
وتحقيقا لهذا الهدف السامي، الذي يجمع خيري الدنيا والآخرة، اعتمد الإمام ياسين رحمه الله تعالى وسائل عديدة، تأخذ بيد الوافد على الطريق إلى الله تعالى تحث به السير وتهيئ وعاء قلبه لاستقبال أنوار الله تعالى والمشي في طريقه على هدى وبصيرة، وفي هذا يقول الإمام: “إن مشروع الخلاص الفردي هو المحور الذي تدور عليه الجماعة المؤمنة، ولا يتصور أن تتكون للمسلمين جماعة إن لم يكن لدى كل فرد من أفراد الأمة محبة لله ورسوله وانتظار لموعوده” 6.
ويضيف رحمه الله تعالى مشددا على محورية هذه التربية في صناعة الرجولة الإيمانية “التربية الإيمانية عملية على نجاحها يتوقف ميلاد المسلم إلى عالم الإيمان، ثم نشوءه فيه وتمكنه ورجولته، ولا جهاد بلا تربية، ولا يكون التنظيم إسلاميا إن لم تكن التربية إيمانية” 7.
وتتنوع وسائل التربية التي أقرها الإمام، تنوعا يكسبها خاصية الشمولية والإحاطة والتجدد والحيوية، بين مجالس إيمانية تربوية أسبوعية “الأسرة” وأخرى دورية “النصيحة” وثالثة موسمية “الرباطات”.. وبين التزامات فردية تضمن دوام صلة القلب بالله تعالى؛ من أداء “أوراد” يومية ودعاء “الرابطة” وتمثل لـ”يوم المؤمن وليلته”.. وغيرها من الوسائل التي تضمن يقظة القلب الدائمة وصناعة الرجولة اللازمة لخوض مضمار الجهاد.
في التقرير التالي تجدون تعريفا مقتضبا لمجموعة من هذه الوسائل التربوية الإحسانية، مع الإشارة إلى أن هناك وسائل أخرى تعنى بالتعليم الفكري التكويني التدريبي الجهادي وأنشطة دعوية، لا يسعنا التطرق إليها هنا حتى لا نطيل على القارئ، على أن يرجع من يريد التفصيل أكثر إلى مكتبة الإمام رحمه الله تعالى.
مجالس الإيمان: الأسرة
كان من أول ما دعا له الإمام ياسين ارتياد مجالس خاصة بحفظ القرآن وتدارس معانيه وذكر الله تعالى وتعلم أمور الدين، وسمى هذه النواة الأولى في تنظيم الجماعة “أسرة”، حيث اعتبر “مجالس القرآن تلاوة وتدارسا، ومجالس الإيمان التي تتنزل عليها السكينة، وتغشى أهلها الرحمة، وتحف بهم الملائكة، من أهم شعب الإيمان” 8. وأن “صحبة الصالحـين ومجالستهم شرط في قلع جذور الفتنة من القلوب” 9.
ودل الإمام على أهمية هذه المجالس الربانية النورانية، في غير ما مكان في كتبه، فقال في كتاب تنوير المؤمنات “وجود حقل تربوي تتلاقح فيه الأغراس، وتنعقد فيه ثمار خشية الله من أزهار الإيمان بالله. وجود فضاء صحي تستشفي فيه الأنفس المريضة. وجود بيئة سليمة تعم سلامتها الواردين، ويحمل السلامة من فَسَحاتها الصادرون. وجود مجالس الإيمان والذكر والقرآن والتوبة والخشوع، فيها يعقد المؤمن وتعقد المؤمنة مع ربها عز وجل عقدا أن تكون له أمة وأن يكون هو له عبدا. من هذا العقد تنبثق الحقوق والواجبات” 10.
وعرّف مادة هذه المجالس وثمرتها بقوله في كتاب المنهاج النبوي: “الإيمان يتجدد بالإكثار من قول لا إله إلا الله، فعندما تكون الصحبة صالحة، رجلا صالحا وجماعة صالحة، ويقبل الكل على ذكر الكلمة الطيبة النورانية حتى يخرجوا عن الغفلة، ينشأ جو إيماني مشع، ينشأ في الجماعة فيض إلهي، رحمة، نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض. فتلك هي الطاقة الإيمانية، الجذوة الأولى التي تحرك القلوب والعقول لتلقي القرآن بنية التنفيذ كما كان يقول سيد قطب رحمه الله” 11. وفي رسالة الإسلام أو الطوفان “ومع الصلاة مجالس لذكر الله، لقراءة القرآن وتدارسه وتسبيح الله وتعلم ما يقيم أمر المسلمين. كان الصحابة رضي الله عنهم يسمون هذه المجالس مجالس الإيمان. وكانت تنظم حول القرآن وتلاوته وفهمه وتدبره وترتيله، وتعلم الدين.. وإن لمطالب العيش جاذبية تجذب الهمم والعقول خارج دائرة الموضوع الأساسي في حياة كل إنسان، وهو معرفة معنى الحياة والموت وقيمة الإنسان. وما أمرنا الله بشيء أمره لنا بالذكر والتسبيح. وأفضل الاحتفاظ بلفظة الذكر لعمومها، وبعبارة مجالس الإيمان لأنها أدل على الخاصية التطبيبية لهذه المجالس. فإن الإيمان يتعلم كما يتعلم الكفر، والمحبة تعدي كما يعدي البغض، والإيمان والمحبة يتلقاهما المؤمن في مجالس الإيمان المرتبطة بالصلوات الخمس في المسجد جماعة. وإن النفوس الصدئة والقلوب المهمومة العطنة والهمم الفاترة تجد دواءها في هذه المجالس” 12.
وأحيا الإمام رحمه الله تعالى هذه السنة تأسيا بفعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم حيث “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس بعضُهم بعضاً ليجالسه هذه الجلسة المباركة المرحومة. كانت كلمةُ «اجلِس بِنا نؤمن ساعة» رائجة بينهم، أبْلَغنا خبرَها الثقاتُ علماء الحديث” 13.
وكان رحمه الله تعالى يحث على المواظبة على هذه الجلسة المباركة، ورد في كتيب “يوم المؤمن وليلته”: “خصِّص ساعة لجلستك الإيمانية مع إخوتك لتكون من الراتعين في رياض الجنة كما أخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمجالس الذكر تملق العبيد لله ومرتع في رياض الله، أو لزيارة دعوة ودراسة، فلأن يهدي الله على يدك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس” 14.
مجالس النصيحة
هي سنة حميدة أطلقها الإمام المجدد رحمه الله تعالى بعد الرباط التأسيسي يوم الخميس 5 رجب 1418هـ الموافق 6 نونبر 1997م، ثم عممت بتدرج في باقي المناطق، وقد استنبط الإمام تسميتها من الحديث الشريف “الدِّينُ النَّصِيحَةُ”.
وهي مجالس تختلف عن “الأسر” بكونها تجمع المنتسبين إلى جماعة العدل والإحسان في منطقة معينة، أعضاء وقيادات جنبا إلى جنب، فيكون العدد أكبر ووتيرة الاجتماع أقل، “لا تأخذ الصبغة الإلزامية في الحضور بل التطوع والرغبة والقابلية والاستعداد صبغتها الأساسية، مادتها الرئيسة ذكر الله والتذاكر فيه، والتفكر في آلائه ونعمه، فيها يُتعلم تمام الافتقار إلى الله عز وجل وحبه والتوكل عليه والاعتماد عليه سبحانه وتعالى” 15.
“وهي مجالس صحبة في الله وذكر لله وصدق في طلب وجهه الكريم، فيها تحيى قلوب وتستيقظ همم وتشحذ الإرادات… وهي مجالس تفقه في الدين، وأخوة خالصة يجليها الصفاء، وترقٍّ في الدين إلى أعلى مقامات الإحسان حتى لقاء الله” 16.
“وهي مجالس تعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تبقى مآدب للإحسان توزع فيها الأرزاق المعنوية، ويصبر فيها المؤمن نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. وفيها تنشرح الصدور ببركة الصحبة والذكر، وبركة صدق المتجالسين في الله عز وجل عبادا لله مفتقرين إلى رحمته” 17.
“وتذوب في مجالس النصيحة بفضل الله كل الفوارق العمرية والتنظيمية والاجتماعية. تهفو إليه قلوب الشباب والشيوخ… طِلبة الجميع اللهُ، وبغيتهم تزكية أنفس وإعداد قلوب للقاء الله، ورفع عيون أفئدة إلى مقعد الصدق عند مليك مقتدر.. “ 18.
ونظرا لما يكتسيه من أهمية عظمى في الترقي في مدارج الدين، وما ينطوي عليه من خير عميم يفيض على الفرد والجماعة، فقد ألف في تعريف مجلس النصيحة ومادته وأهدافه الأستاذ منير ركراكي (عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان) كتابا سماه “مجلس النصيحة”، هذا بعض ما جاء فيه: “مجلس ذكر ومذاكرة وفتح رباني، مجلس علم وحلم، مجلس تلاوة ومدارسة تحف أهله الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة، ويذكرهم الله فيمن عنده. مجلسُ تجالسٍ في الله، وتزاور فيه، وتحابٍّ فيه، وتباذل فيه، وتناصح فيه، وتصافٍ فيه، وتواصل فيه… مجلس هو مأدبة الإحسان، فيه توزع الأرزاق المعنوية، وفيه يصبر المؤمن نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. يتفقه ما به يعمل ويعلّم غيره، وما به يُنذر ويُحذر إذا رجع. مجلس هو بعض حضرات قضاء الحاجات العظمى عند الله. مجلس يعوض عن الصحبة بالمجالسة والمشافهة. مجلس يتطلب القلب الحي السليم المنعم عليه بالرحمة، والعقل اليقظ الفطن المكرم بالحكمة، والجسد النظيف الخفيف المساعد على الخدمة، حتى يؤلف الله بمن توافرت فيهم هذه المحامد الصف المؤمن المجاهد، ليكون مرصوصا على الخير..” 19.
الرباطات
هي محطات إيمانية أخرى، يكون برنامجها حافلا بالذكر والصلاة والصيام وحفظ القرآن وقيام الليل والتعليم، ينقطع فيها ثلة من المؤمنين عن العالم الخارجي في مدة أقلها يوم وليلة وتصل إلى أربعين يوما، استنبط الإمام المجدد هذه الآلية التربوية من معاني الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا لعلكم تفلحون، ومن الحديث النبوي: “عن أَبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى مَا يمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلى يَا رسولَ اللَّهِ. قَالَ: إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ” رواه مسلم.
معان تحث على الصبر والمصابرة والرباط، حبسا للنفس وتدريبا لها بشكل جماعي، يستمد المؤمنون من بعضهم ويتواصون ويتعلمون بعيدا عن ضجيج الحياة، فيها يقول الإمام رحمه الله تعالى: “من أهم ما يربط المؤمنين أيام وليال أمضوها في فسحات الإيمان والأخوة والتعاون الجاد والمثمر بعيدا عن ضوضاء الناس.. فيركز فيه على موضوع للدراسة معين وتوزع أوقات الليل والنهار لقيام الليل والتلاوة والوعظ والرياضة والتعارف وتبادل الخبرات وإعداد المستقبل. وفي فترات غير متباعدة يجلس المؤمنون في رباط يعكفون فيه على ذكر الله عز وجل ليتجدد الإيمان وتتقوى العزائم” 20.
وقد وضح فضيلة الأستاذ محمد عبادي، الأمين العام للجماعة حفظه الله، ماهية وأهداف هذه الوسيلة في كلمة توجيهية ختم بها الرباط التربوي المركزي الصيفي بسلا لسنة 2017، فقال: “إن الرباطات مدرسة تربوية يتحقق فيها الجمع والانجماع… تنتشلنا من أودية الغفلة، فالإنسان في حياته اليومية المعيشية وحتى الحركية الدعوية ينسى الأصل ويبتعد عنه، فهي تنتشلنا من هذه الوهدة وتعود بنا إلى أصلنا الذي هو الصحبة والجماعة والذكر والصدق… الرباطات محطاتٌ نجدد فيها إيماننا بقول لا إله إلا الله، نجدد فيها توبتنا إلى الله سبحانه وتعالى عز وجل، نجدد فيها عزائمنا… لا ينبغي أن نتخلف عنها لأنها تحيينا حياة إيمانية، حياة أخرى نتزود فيها بالزاد الروحي… الرباطات محطات تجمعنا على الله سبحانه وتعالى عز وجل، وتوحد قلوبنا، وتوحد صفنا، وتجعل لحمة الجماعة قوية”.
الأوراد
خصص لها الإمام ياسين فقرة كاملة في كتابه “الإحسان” عنونها بـ”الأوراد وخصائص الأذكار” عرف بحقيقتها وحكمها وجسامتها، جاء فيها “المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. والأوراد أوتادٌ راسية عليها يبني المؤمن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسُوَيْدَاءِ قلبه. الأوراد هي الطريق إلى الله عز وجل لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل (…) الأوراد والمداومة عليها سنة. وهي بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به (…) للذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم الاستهتار إن وفقه الله” 21. ويفهم من كلام الإمام أنه بحسب المداومة على الأوراد تأتي ثمارها في الترقي في السلوك إلى الله تعالى.
وكعادته رحمه الله وأحسن إليه فقد أصّل لهذه الوسيلة التربوية من الهدي النبوي ما به تقر القلوب وتنفتح الأنفس للعمل باطمئنان، يقول: “وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته معراجا يتدرج فيه الذاكر ليصل إلى ما شاء الله من تلك الدرجات. قال صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه”. رواه البخاري ومالك عن عائشة رضي الله عنها. وروى مسلم عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل”.. وكان “إذا عمل عملا أثبته”. أثبته بمعنى داوم عليه في وقته من نهار أو ليل” 22.
يوم المؤمن وليلته
هو برنامج عملي “يستحضر فيه المؤمن ربه طيلة يومه، حتى يبقى مع الله ولله وبالله، يختار صفوة الأعمال لصفوة الأوقات، وحتى يمسك زمام نفسه عن التسيب في الأوقات، فيخرج من ظلام الغفلة إلى نور اليقظة، ومن زمن العادة إلى زمن العبادة، فمن لا ورد له لا وارد له. بهذا البرنامج يكون المؤمن بوقته شحيحا ينفق فيه بمقدار ولا يضيعه فيما لا يعني” 23.
سطر الإمام رحمه الله تعالى هذا البرنامج في كتيب، افتتحه بفقرة تبسط ضرورة الالتزام بالعبادات المختلفة في أوقات معينة حددها الشرع، يكون الفضل فيها أعظم من غيرها: “أخي المؤمن، أختي المؤمنة، يقول تعالى في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وما بين الحياة والموت مجال زمني لعمل الإنسان، أي للعبادة. فعمرك هو رأس مالك، فينبغي أن تنظم وقتك بين الواجبات والأعمال المختلفة، حتى لا يطغى بعضها على بعض، إذ ليس المهم أن تعمل ما شئت متى شئت، بل المهم أن تعمل العمل المناسب في الوقت المناسب. فعليك أن تعرف ما يتطلبه الوقت من عمل القلب واللسان والجوارح وتتحراه وتجتهد في القيام به حتى يقع موقعه من الموافقة للمقصود، ومن القبول عند الله عز وجل. جاء في وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استخلفه: ﴿اعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار﴾”.
ويعرف الأستاذ منير ركراكي “يوم المؤمن وليلته” بأنه “منظومة حياة تخفف وطأة التجاذب بين الواجبات، وتنظم الأعمال بين الأوقات بانسياب ييسر الله به للمؤمن الاهتمام بلب الأمور وجوهرها، فتتعود النفس إسلاس القياد بإذن ربها”.
دعاء الرابطة
هو مما سنه الإمام المجدد رحمه الله تعالى، وأورده في كتيبه “يوم المؤمن وليلته”، وهو دعاء يربط المؤمن والمؤمنة بسلك الأنبياء والصالحين من لدن سيدنا آدم، “ومما أرشدنا إليه القرآن الكريم أن ندعو لأولئك الذين سبقونا بالإيمان بدءا من أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، ثم الذين أوصلوا إلينا هذا الدين القويم لأننا قد علمنا ديننا منهم وأخذنا من سيرهم القدوة. لقد كانوا أمناء في البلاغ، أمناء في العمل، أمثلة بارزة وهادية في العمل الخالص من أجل الدعوة. لذلك يعلمنا الحق عز وجل كيف ندعو لهم بقوله سبحانه من سورة الحشر: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(١٠) 24.
وفي ثمرة هذا الدعاء وتأصيله كتب الإمام رحمه الله تعالى: “بهذا الدعاء يشعر المؤمن بانتمائه إلى الموكب النوراني -موكب الإيمان والجهاد- من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، فيدخل الداعي في بركة أمة الخير التي تولاها الله عز وجل، ويزداد صلة إيمانية ومحبة بمن يدعو لهم عن ظهر غيب من إخوته. وفي التشهد تعليم كذلك للمؤمنين دعاء الرابطة، إذ ندعو لكل الصالحين فنقول: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”، والذي يقول فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض” أخرجه الإمام مسلم” 25.
هذه أبرز معالم وصوى وآليات طريق السلوك إلى الله تعالى التي سنها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، وأرشد أعضاء جماعته وكل المسلمين إلى اتباعها عسى أن يخرجوا من حال الغفلة السائدة ويلجون سرب الذاكرين العاملين في معراج مدارج الدين، حتى تتخلص أنفسهم مما علق بها من كادورات الدنيا ويخلصون العمل والوجهة لله سبحانه وتعالى، وتصبح كل أعمالهم من الله وإليه وبه، حتى إذا خرجوا إلى مضمار الجهاد الأصغر والقيام بواجبات الأمة والنهوض بها وإعلاء كلمة الدين كانت هذه أيضا عبادة في حقهم، وكان زادهم من الاعتماد والتوكل على الله عز وجل والارتباط الدائم به سببا في تغيير ما بالأمة من أدواء، تصديقا لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
[2] نفسه، ص 8.
[3] عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام غدا”، ص 41.
[4] عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام والحداثة”، ص 354.
[5] عبد السلام ياسين، كتاب “الإحسان”، ج 1، ص 98.
[6] عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام غدا”، ص 201.
[7] عبد السلام ياسين، كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”، القسم الأول: ص 54. مجلة الجماعة، العدد الثامن.
[8] عبد السلام ياسين، كتاب “المنهاج النبوي”، م. س، ص 164.
[9] عبد السلام ياسين، كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم”، ص 587.
[10] عبد السلام ياسين، كتاب “تنوير المؤمنات، ص 213.
[11] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م. س. القسم الأول: ص 55. مجلة الجماعة، العدد الثامن.
[12] عبد السلام ياسين، رسالة “الإسلام أو الطوفان”، ص: 136 – 137.
[13] عبد السلام ياسين، كتاب “الشورى والديمقراطية”، ص 329.
[14] عبد السلام ياسين، كتيبت “يوم المؤمن وليلته”، ص 18.
[15] “العدل والإحسان: الهوية، الغايات، المواقف، الوسائل”، ورقة منشورة على موقع الجماعة.نت: http://www.aljamaa.net/ar/2009/02/03/جماعة-العدل-والإحسانالهوية-الغايات-ا/
[16] من رسالة للإمام عبد السلام ياسين إلى المعتقلين الإثني عشر بالسجن المركزي بالقنيطرة.
[17] “العدل والإحسان: الهوية، الغايات، المواقف، الوسائل”، ورقة تعريفية منشورة علىموقع الجماعة.نت: http://www.aljamaa.net/ar/2009/02/03/جماعة-العدل-والإحسانالهوية-الغايات-ا/
[18] “هذه هي المجالس التي يحاربون”. مقال للأستاذ عبد الكريم العلمي (2006)، منشور على موقع الجماعة.نت: http://www.aljamaa.net/ar/2006/06/16/هذه-هي-المجالس-التي-يحاربون/
[19] منير الركراكي، كتاب “مجلس النصيحة”، ص: 21، 22.
[20] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م. س. ص 48-49.
[21] عبد السلام ياسين، كتاب “الإحسان”، ج1، ص: 297-298.
[22] نفسه، ص: 297.
[23] “العدل والإحسان: الهوية، الغايات، المواقف، الوسائل”، م. س.
[24] عبد السلام ياسين، كتيب “يوم المؤمن وليلته”، ص 24.
[25] نفسه، ص 25.