دائما تستوقفني هذه الآية الكريمة لتستنهض الهمة، وتستجمع ما تشتته هموم الدنيا وتكاسل النفس أمام العقبات. هذه الآية الكريمة جعلها الله تعالى مسك ختام سورة العنكبوت المكية، لتكون بذلك جسر العبرة والعبور بين سورة افتتحها الله تعالى بآية الابتلاء أَلَٓمِّٓۖ اَحَسِبَ اَ۬لنَّاسُ أَنْ يُّتْرَكُوٓاْ أَنْ يَّقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَۖ (1) وَلَقَدْ فَتَنَّا اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِهِمْۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ اَ۬لْكَٰذِبِينَۖ (2) أَمْ حَسِبَ اَ۬لذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لسَّيِّـَٔاتِ أَنْ يَّسْبِقُونَاۖ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَۖ (3) من جهة، وآية البشرى بالنصر التي افتتح بها الله تعالى سورة الروم من جهة ثانية، قال تعالى: أَلَٓمِّٓۖ غُلِبَتِ اِ۬لرُّومُ فِےٓ أَدْنَي اَ۬لَارْضِ وَهُم مِّنۢ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (1) فِے بِضْعِ سِنِينَۖ (2) لِلهِ اِ۬لَامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُۖ وَيَوْمَئِذٖ يَفْرَحُ اُ۬لْمُومِنُونَ (3) بِنَصْرِ اِ۬للَّهِۖ يَنصُرُ مَنْ يَّشَآءُۖ وَهُوَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لرَّحِيمُۖ (4). ومن الحكم البهية ورود هذه الآية في سورة سميت بالعنكبوت، وهي حشرة جعلها الله تعالى وبيتَها آية لمن رزقه الله قلبا يعقل به عن مولاه سبحانه. ولقد ضرب الله تعالى بها المثل لكيد الذين يعملون السيئات من الكافرين والظالمين، مشبها كيدهم ببيت العنكبوت، مردفا بـإِنَّ أَوْهَنَ اَ۬لْبُيُوتِ لَبَيْتُ اُ۬لْعَنكَبُوتِۖ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَۖ (الآية 41). فبعدما سرد سبحانه مصير نماذج تاريخية من الأمم السابقة، دمرهم الله تعالى بظلمهم وجحودهم، جاء هذا المثل ليؤكد الحقيقة الساطعة، التي يحتاج المؤمنون أن يحصل لديهم اليقين فيها، وهي أن صولة الظلم والجحود والاستكبار لا تعجز إرادة الله سبحانه وتعالى، حاشا وكلا! فإنما هي ابتلاء من قدر الله تعالى، وعقبة ليمحص بها الصادقين من الكاذبين. ولله الأمر من قبل ومن بعد. فإذا ما استكمل المؤمنون شروط النصر يقينا وبذلا للجهد وإعدادا للقوة نصرهم الله تعالى. قال تعالى: وَالذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۖ وَإِنَّ اَ۬للَّهَ لَمَعَ اَ۬لْمُحْسِنِينَۖ (العنكبوت، 69).
جمعت هذه الآية الكريمة مع قلة ألفاظها معاني وأسرارا عظيمة، فهي الجامعة للمفاتيح الرئيسة في منهاج التغيير الأنفسي والآفاقي، والتي يمكن سردها كما يلي:
1- أن الآية جاءت وصفا لقوم أحياء نزلت عليهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المرابطون الصامدون الصابرون بمكة قبل الإذن بالهجرة إلى المدينة، وقبل أن يشرع لهم الحق في القتال دفاعا، رضي الله عنهم. فهذه الآية إذن ليست درسا نظريا، بل هي مشفوعة بنموذج تاريخي حي شاهد، جاهد وصابر وصبر حتى نال ثمرة الصحبة قربا ووصلا، وحصيلة الجهاد تمكينا ونصرا.
2- أن الصيغة وردت جمعا، ولم ترد فردا، للدلالة على أن الجهاد والتدافع مع الظلم والجور والكفر والطغيان يحتم جمع الجهود والانتظام في جسم متماسك، وإلا ذهبت الجهود أدراج الرياح، سنة الله في التغيير.
3- سنة الله تعالى لا تحابي أحدا، فلا مناص من صبر النفس وبذل الجهد والمال والوقت بشكل فردي وجماعي، ولابد من إعداد العدة، واستجماع عناصر القوة المادية والمعنوية، ولابد من مصانعة الواقع ومطاولة القوى المناوئة صبرا ومصابرة… والجهاد في هذه الآية عام لكل أبواب الجهاد، بدءا من جهاد النفس ومحاسبتها وامتدادا إلى كل أبواب الجهاد المتعددة.
4- محورية الصدق في الطلب والإخلاص في البذل، فقد ربط الله تعالى الجهاد بذاته، فقال سبحانه: “فينا” ليحث المؤمنين على توحيد قصدهم ووجهتهم وتوكلهم على الله تعالى. فجهادهم تعبد طلبا لوجه الله تعالى. وهذا أصل أصيل في منهاج التغيير، لأنه يفرض أن يصحح المجاهد نيته في كل مرة، ويجددها بتجديد الإيمان عبر الإكثار من قول الكلمة الطيبة “لا إله إلا الله” كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وأن يفتش نفسه ويحاسبها مستقويا بصحبة دالة على الله تعالى، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَ۬لذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ (الكهف، الآية 28). والمدخل إلى ذلك التربية ثم التربية ثم التربية الإيمانية الإحسانية الجهادية.
5- “لنهدينهم سبلنا”، وردت العبارة بنون التوكيد مبالغة في التصديق الذي يبلغ اليقين، ووقعت اللام في جواب القسم المحذوف فكانت بذلك مبالغة في التعليل، وكأنه جزم أن لا هداية لسبلنا إلا لمن جاهدوا فينا. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى: “تكون الهداية على قدر الجهاد، فمن استكمل أبواب الجهاد استكمل الهداية”.
ولقد وردت الهداية بدون حرفي الجر “اللام” أو “إلى” ليشمل معناها الدلالة والمعرفة والتوفيق والتسديد والتثبيت والاستقرار… ووردت “السبل” جمعا، كما وردت في آية أخرى يَهْدِے بِهِ اِ۬للَّهُ مَنِ اِ۪تَّبَعَ رِضْوَٰنَهُۥ سُبُلَ اَ۬لسَّلَٰمِۖ (سورة المائدة، 16) للدلالة على أن الله تعالى واسع العطاء والمن، وأن أبواب الخير وسبل الفوز به متنوعة لا تحجير فيها ما دامت موصولة كلها بالله تعالى ومرضاته. فما على المؤمن إلا أن يجتهد في طرق الأبواب صابرا محتسبا.
إن هذه الآية تأخذ بتلابيب النفس لتستحثها على التقرب إلى الله بالفرض والنفل واعدة إياها بالقرب والولاية. “وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ!” الحديث القدسي. وأعظم بها من هداية أن توصلك إلى كمال حب الله تعالى وقربه وولايته المشفوعة بسنام الأمر؛ الجهاد في سبيل الله تعالى والمستضعفين. وَفَضَّلَ اَ۬للَّهُ اُ۬لْمُجَٰهِدِينَ عَلَي اَ۬لْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماٗ (النساء، 95).
وهذا ما ختم الله تعالى به هذه الآية؛ حيث أعلى من شأن المحسنين ووعدهم بالمعية الربانية الكاملة قربا ووصلا ومحبة وأنسا ورحمة وتوفيقا وتسديدا وحفظا وعناية ونصرا وتمكينا. ولا يحصل هذا الكمال إلا للمحسنين المجاهدين، ونستحضر أن “الإحسان” ليس هو إتقان العمل وحسن معاملة الخلق فقط، بل هو أساسا أعلى مراتب الإيمان: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” كما ورد في حديث جبريل الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيحين.
تذكرنا هذه الآية بهذا الجمع البديع بين الجهاد لإقامة العدل والمجاهدة لإقامة الإحسان بذات الترتيب، التي وردت في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. ومرة أخرى تحضر لام التوكيد غرسا لليقين في قلوب المؤمنين المجاهدين السالكين الطريق إليه تعالى ارتقاء في مدارج الإحسان والمجاهدين في سبيل الله والمستضعفين لإقامة العدل وإعلاء كلمة الله تعالى، جعلنا الله منهم. آمين.