أبوة رسول الله ﷺ: نموذج الأبوة الرحيمة

Cover Image for أبوة رسول الله ﷺ: نموذج الأبوة الرحيمة
نشر بتاريخ

فاطمة الرصافي

عاطفة الأبوة أمر فطري لدى الآباء نحو الأبناء، لكن بلوغ الكمال فيها لم يحققه إلا القليل، ونبينا المصطفى ﷺ كان صاحب الكمال فيها كبقية صفاته، تلك الصفة التي من أبرز مظاهرها: الشفقة بالأطفال والرقـة لهم، ليس مع أبنائه وبناته الذين من صلبه فقط، بل كان ذلك مع أبناء المسلمين عامة.

وإن المطلع  على سيرة  سيدنا رسول الله ﷺ  تطلُّ عليه بوضوح معالم الأبوة الفاضلة في شخصيته ﷺ. هذه الأبوة التي تحمل في ثناياها كل معاني الرحمة والعطف والحنان والرعاية والحب؛ نتلمسها من خلال واقع عملي، تعجز الكلمات عن احتواء معانيه وبيان مراميه. فنبي الرحمـة ﷺ كانت الأبوة فيه كاملة شاملة فاض برها وحنانها وشفقتها على أبنـاء المسلمين جميعـا، وسعدوا بها، وتفيـؤوا ظلالها، لقد كانت أبوة سخية معطاءة، بارة حانية، تعلم الآباء كيف يكون البر، وكيف تكون الرحمة، وكيف يكون الحنان، بل كيف تكون الأبوة. وستظل أخبار تلك الأبوة الكاملة الشاملة التي سجلتـها الأحاديث الصحيحة سطورا من نور تهدي الإنسانية إلى سنة خير البرية صلى الله عليه وسلم.

ولعل من مظاهر التعبير عن سعادة النبي الأب هي فرحه بقدوم مولوده، قال ابن القيم وهو يتحدث عن إبراهيم وولادته: وبشره – أي النبي ﷺ – به أبو رافع مولاه، فوهب له عبدًا 1. أي كانت مكافأة البشارة عبدًا، والعبد يومئذٍ قيمة كبيرة.

وينقل لنا أبو هريرة رضي الله عنه موقفًا من  مواقف أبوته ﷺ فيقول: “خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في طَائِفَةِ النَّهَارِ، لا يُكَلِّمُنِي ولَا أُكَلِّمُهُ، حتَّى أتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقالَ: أثَمَّ لُكَعُ؟ أثَمَّ لُكَعُ؟ فَحَبَسَتْهُ شيئًا، فَظَنَنْتُ أنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا، أوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حتَّى عَانَقَهُ وقَبَّلَهُ، وقالَ: اللَّهُمَّ أحْبِبْهُ وأَحِبَّ مَن يُحِبُّهُ” 2.

فهكذا يذهب ﷺ إلى بيت فاطمة رضي الله عنها، ليس له قصد سوى تقبيل الحسن ومعانقته. ولقد كان هذا مسلكه ﷺ في مجالسه الخاصة والعامة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يُقبِّلُ الحَسَنَ بنَ علِيٍّ، فقال الأقرَعُ بنُ حابِسٍ: إنَّ لي عَشَرةً مِن الوَلَدِ، ما قبَّلتُ منهم أحَدًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “مَن لا يَرحَمْ، لا يُرحَمْ” 3. إن حب الأولاد إذن وتقبيلهم مؤشر على وجود الرحمة في القلوب، والطفل يحب المداعبة، وهي ضرورية لاستكمال بنائه النفسي والجسمي..

وهذا سيدنا أبو هريرة ينقل لنا  أيضا صورة من صور الكمال الإنساني فيقول: “رأيت النبي ﷺ حاملا الحسين على عاتقه، ولعابه يسيل عليه” 4.

وفي رواية عن شداد بن الهاد الليثي قال: “خرَجَ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في إحدى صَلَاتَيِ العِشاءِ، وهو حامِلٌ حسنًا أو حُسينًا، فتقدَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فوضَعَه، ثمَّ كبَّرَ للصَّلاةِ، فصلَّى، فسجَدَ بينَ ظَهْرَانَيْ صلاتِهِ سجدةً أطالَها، قال أَبِي: فرفَعْتُ رَأْسي، وإذا الصبيُّ على ظَهرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو ساجِدٌ، فرجَعْتُ إلى سُجودي، فلمَّا قضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال الناسُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّكَ سجَدْتَ بينَ ظَهْرَانَيْ صلاتِكَ سجدةً أطَلْتَها، حتَّى ظَنَنَّا أنَّه قدْ حدَثَ أمْرٌ، أو أنَّه يُوحَى إليكَ، قال: كلُّ ذلكَ لم يكُنْ، ولكنَّ ابْني ارْتَحَلَني، فكرِهْتُ أنْ أُعْجِلَهُ حتَّى يَقضيَ حاجتَهُ” 5.

 ولقد رآه المسلمون جميعًا وهو يؤمهم حاملًا حفيدته  أمامة رضي الله عنها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وتبين لنا  أمنا عائشة رضي الله عنها مكانة  أمامة عند رسول اللهﷺ فتقول: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية، فيها قلادة من جزع، فقال: “لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي” فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب، فعلقها في عنقها” 6.

ولما نال أولاد بناته مكانتهم من نفسه ﷺ ذكورًا وإناثًا وشملهم جميعًا بعطفه وحبه وحنانه، فإن اهتمامه ﷺ ببناته وحبه لهن لا شك كان أشد وأعظم، فكان كثيرًا ما يزورهن ليطمئن على أوضاعهن، وكان إذا دخلت عليه ابنته فاطمة رضي الله عنها يقوم لها ويقبلها، ويجلسها عن يمينه، ويبسط لها ثوبه. والذي نتوقف عنده هنا، هو تصريحه ﷺ: “إِنَّما فاطمةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي ما آذَاها، و يُنْصِبُنِي ما أنْصَبَها” 7.

كما كان ﷺ يكرم بناته جميعا،  يحزن لحزنهن، ويرحم المريضة منهن ويهتم لحالها، وقد خلَّف عثمان عن غزوة بدر ليكون عند رقية في مرضها. 

ومع كل هذا الحب. وهذا العطف، ما كانت تأخذه العواطف في تنفيذ الأولويات،  فإنه ﷺ لم يلبِّ طلب فاطمة رضي الله عنها يوم جاءت تطلب خادمًا من السبي بتشجيع من علي رضي الله عنه فقال ﷺ: “والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم..” 8.

وحتى الصغار ما تهاون معهم في تطبيق أوامر الله عز وجل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل، فيجيء هذا بتمره، وهذا من تمره حتى يصير عنده كوما تمر، فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة، فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله ﷺ، فأخرجها من فيه، فقال: «أما علمت أن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الصدقة» 9.

إنه تعليم للجميع لمعنى الرعاية الأبوية، وإنها تربية الانضباط مع أوامر الشرع.. تلك بعض صور من صور التعامل والرحمة بالأولاد؛ سجلتها السنة المطهرة لتكون السبيل الذي يسير المسلمون فيه متتبعين آثار الخطى الكريمة.   


[1] زاد المعاد (104-1)
[2] صحيح البخاري | الرقم: 2122.
[3] حديث صحيح : أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318)، وأبو داود (5218)، والترمذي (1911)، وأحمد (10673)
[4] حديث صحيح. أخرجه أحمد (9779)، وابن ماجه (658).
[5] المحدث: الألباني، حديث صحيح أخرجه النسائي (1141) وأحمد (16076.
[6] الفتح الرباني (22/ 112). والجزع: خرز يماني.
[7] الراوي: عبد الله بن الزبير | المصدر : صحيح الجامع | الرقم: 2366 | حديث صحيح أخرجه الترمذي (3869)، وأحمد (16123)، والطبراني.
[8] الراوي: علي بن أبي طالب إسناده حسن، أخرجه النسائي (3384)، وابن ماجه (4152)، وأحمد (838).
[9] صحيح البخاري الرقم 1485.