أثر فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين في استقرار الوطن

Cover Image for أثر فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين في استقرار الوطن
نشر بتاريخ

من نعم الله عز وجل على هذا الوطن الحبيب أن بعث فيه رجلا من رجالات الدعوة والإصلاح والتغيير؛ الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله. جدد الله تعالى به الدين وجمع على يديه شمل زمرة من المؤمنين الصادقين الطالبين وجه الله عز وجل والخير والحب للوطن، وكان سببا في تربية أجيال من الشباب المؤمن والمحسن يحفظ للوطن أمنه واستقراره.

فكيف أسهم فكر الإمام في استقرار الوطن؟ 

إن الدارس من خبراء وباحثين لنظرية الإمام عبد السلام ياسين في الدعوة والإصلاح والحركة والتغيير يجد أنه يعتمد أسلوب ووسيلة التدافع السلمي في التغيير، حتى وصفه البعض بغاندي المغرب، قال في لقاء الصحافة الوطنية والدولية بعد رفع الحصار (نحن لانمل من ذكر أننا ضد العنف إلى حد جعل بعضهم يشبهني بغاندي المغرب)، وقال في مجلة الجماعة (دعوتنا إلى الله دعوة محبة أي دعوة أمن وسلام داخل مجتمعاتنا الإسلامية وعلى العالم) 1.

لهذا نجده قعّد لقواعد يبني عليها مشروعه المجتمعي ونظريته التغييرية السلمية في التدافع. من هذه القواعد:

1- الفتنة مقابل الجاهلية

اجتهد بعض المنظرين للحركة الإسلامية والدعاة لظروف خاصة في توصيف المجتمع بالجاهلية والحكم عليه بالمجتمع الجاهلي، يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في معالم في الطريق: “نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم”. فاستعملت بعض الجماعات الإسلامية هذا التوصيف للمجتمع (خصوصا أعضاءها من الشباب المتطرف المتحمس لتغيير المجتمع والواقع)، فحكموا على المجتمع بالجاهلية، ومن ثم كفّروا المجتمع وأباحوا دمه واستعملوا العنف الدموي في تغيير المجتمع والواقع.

في حين نرى أن الإمام المجدد رضي الله يستعمل مصطلحا نبويا في توصيف المجتمع؛ وهو مصطلح الفتنة.  أخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: (لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل).

ومن ثم وجب على رجال الدعوة والإصلاح دعوة المجتمع إلى التوبة إلى الله تعالى بالرفق والرحمة والحب واللين والرأفة والحنو، وتربية المواطن في المجتمع تربية إيمانية إحسانية ليكون صالحا لنفسه ووطنه.

يقول الإمام ياسين في كتابه الإسلام غدا (ويسمي الإسلام بلسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أمر الأمة إذا اختلط حتى ينطوي الحق ويمتد الباطل ويحل العنف والقوة والتطاحن على العصبيات محل التعاون بين المسلمين والمحبة، يسمي الإسلام هذا فتنة، وهو مفهوم يعم مدلولات الأزمة والتخلف وعدم الاستقرار والفوضى والإلحاد) 2.

2- الرفق مقابل العنف

اختارت بعض الحركات اليسارية الراديكالية العنف كوسيلة لحركتها التغييرية في التدافع، وكذا بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة التي مارست العنف لظروف واجتهادات خاصة. وعلى خلاف بعض المنظرين الذي أسسوا فكريا للعنف باعتباره وسيلة للعنف، اختار الإمام الرفق والرحمة والسلمية أسلوبا ووسيلة للتدافع والتغيير، يقول: (أمرنا في الدين بالتيسير والتبشير، فهذا رفق يقابله عنف فقيه يكفر المسلمين، وداع لا يفتح أبواب التوبة، ومشتاق لحكم الإسلام يتصوره ويصوره وجها حانقا، وسيفا مصلتا، وقلوبا لا ترحم) 3.

ويقول: (ليس الرفق هو السكوت عن الماضي جملةً. فلا بد من رد المظالم، ولا بد من كنس القُمامة، ولا بد من التغيير الجذريِّ. والرفق في هذه العمليات، والأناة فيها، وحقن الدماء هي الحكمة المطلوبة) 4. ويضيف: (سبحان الله كأنهم لا يقرؤون ولا يعرفون تاريخ الجماعة، فنحن منذ 20 سنة كتبنا ولا نفتأ نكتب بأننا ضد العنف، والنص -الوثيقة التي بين أيديكم، مأخوذ من مجلة الجماعة وهو متضمن كتابنا المنهاج النبوي: تربية، تنظيما، وزحفا- الذي جاء فيه: لا نمل القول بأن العنف السياسي صبيانية وندعو للعمل المسؤول، فنحن مع التعددية، وقلنا هذا وليس اليوم فقط) لقاء الصحافة الوطنية والدولية..

ويؤكد نفس الخط في مجلة الجماعة أيضا: (لا نرى للتنظيم العنيف المعتمد على الاغتيال السياسي مبررا ولا مستقبلا. إن هي إلا هزات هذا الكائن المترعرع في حضن تاريخ التجديد، يبحث عن متنفس، وعن وسيلة تعبير عن حيويته). وفي كتابه الإسلام والحداثة (إن عدم استعمال العنف مبدأ لا يناقش في الشريعة الإسلامية، ولا نخجل إن نحن أعلناه) 5.

وبعد مرور أكثر من 40 سنة على جماعة العدل والإحسان التي أسسها الإمام لتنزيل مشروعه المجتمعي ونظريته التغييرية “المنهاج النبوي”، لا توجه إليها تهم ممارسة العنف رغم الظلم والحصار والاضطهاد الذي يمارس ضدها من طرف الدولة.

3- العلانية مقابل السرية

العمل السري مجلبة للمشاكل المتعددة، ومدخل لتلفيق التهم المختلفة من قبيل الإرهاب وزعزعة أمن الدولة أو عقيدة المسلم. لذلك نجد أن الإمام ياسين يرفض العمل السري ويعتمد على العمل العلني في التدافع السلمي وتنزيل مشروعه التغييري على أرض الواقع، يقول في مقدمة المنهاج النبوي: (ما ينبغي أن نسكت ويغتنم الأعداء سكوتنا ليتهمونا بالغموض والتخلف الفكري وينسبوا لنا ما شاءوا من تهم الإرهاب والتآمر) 6. ويحذر من هذا المنزلق (من بين المؤمنين في عصرنا من استعجل ودخل في السرية فتعرض لما يصحب العمل السري من غموض وعنف، وأنا لا أقر غموضا ولا عنفا ولا أسلوبا يؤدي إلى واحد منهما) 7. وفي مقابل يؤكد (سنعمل على وضح النهار وسنطلب بأن يكون لنا مواطئ أقدام تحت الشمس، وسنزاحم بالأكتاف الصادقة أكتاف رجال المصالح والمراوغات على جادة الحق حتى يستقيم لنا عليها سير، فإن منعنا من الكلام والتجمع والتنظيم فإنما ستجني الأنظمة المفتونة شوكا، ولن تبلغ من الغباوة أن تظن أنها عندما تغلق المتنفسات ستحول دون انفجار هذه الإرادة العارمة، إرادة الأمة كلها للحق والعدل) 8.

لهذا نجده رحمه الله أسّس تنظيما معترفا به قانونيا، جماعة العدل والاحسان لتنزيل مشروعه الدعوي والإصلاحي ونظريته المنهاجية في التغيير والتدافع السلمي. ورفع شعارا واضحا وضوح الشمس في نهار جميل: لا للعنف بكل أشكاله وتلويناته، ولا للسرية المقيتة، ولا للتعامل مع الخارج، كيفما كان هذا الخارج دولا أو منظمات أو جماعات حتى لا تلفق للجماعة تهم زعزعة الاستقرار الأمني والأمن القومي أو التخابر مع جهات معادية للوطن.
4- القومة مقابل الثورة

حينما نجد حركات تحررية اعتمدت على الثورات والانقلابات الدموية وسيلةً للتغيير، نجد أن الإمام المجدد يستعمل مصطلحا قرآنيا نبويا له دلالات عميقة نفيسة؛ إنها كلمة قومة. يقول: (نزل قول الله تعالى: “وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا” أي اجتمعوا عليه وتزاحموا في أذاه صلى الله عليه وسلم، تلبد الصوف أو الشعر، تداخل ولزق بعضه في بعض، مما يفيد شدة الأذى الذي تعرض له الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه. وجاءه ملك الجبال وقال له: إن شئت أطبق عليهم الأخشبين (جبلان يحيطان بمكة) فقال صلى الله عليه وسلم رغم شدة الأذى: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) 9.

القومة وسيلة للتغيير والتدافع السلمي دون عنف دموي، يقول رحمه الله: (المسلمون في تواريخهم يستعملون كلمة “ثورة” للدلالة على خروجٍ عنيف بغير حق. وفي كلمة “ثورة” إيحاء بالعجلة والعنف والاضطراب. ويستعمل مؤَرِّخونا كلمة “قومة” للإخبار عن الخارجين على الظلمة بحق. وكلمة “قومة” موحية بالقوة والثبـات والثقـة. لذلك نستعملها تميزا في الاصطلاح لنَنْتَقِدَ أساليب العنف وحرق الناس وبقْرَ بطون النساء، وإطفاء السجائر في عيون بني آدم وما إلى ذلك من إفناء الطبقة البائدة وتسليط المخابرات) 10. ويقول: (فالحل العنيف الصراعي الثوري الذي يوصي بالقتل والسفك وتخريب بَيْتِ كل من انتمى مرَّةً للماضي حل غير إسلامي) 11. ويضيف (قومة الداعي تبتدِئ بقومة الرسول في قومه يخاطبهم بلسـانهم على الرفق لا على العنف. وكل داع بعد الرسول لم يبدأ ميسرا لا معسرا، مبشرا لا منفرا، جامعا لجهد الصادقين لا مشتتا فما هو من القوة في شيء) 12.

5- العدل مقابل الظلم

لا يخفى على أي عاقل ذي بصيرة أن الظلم بكل أشكاله وتلويناته؛ الطبقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو العنصري، أينما حل وارتحل إلا وحل معه الخراب والدمار والعنف الدموي. لذا نجدد التأكيد أنه مما تهمم الإمام المجدد به إقامة العدل، حيث حظي بحيز كبير في مشروعه الدعوي التغييري، وتسمية التنظيم الذي أسسه لخير دليل على ذلك، بل وأفرد لهذا الأمر كتابا خاصا يطرح من خلاله تصوره وتنظيره؛ كتاب العدل الإسلاميون والحكم. والأكثر من هذا وجّه النصيحة للحاكم يدعوه للتوبة إلى الله تعالى وإقامة العدل. أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل..) الحديث.

يقول الإمام المجدد: (العدل أن تكون الإدارة والقضاء في خدمة العجوز المسكينة البدوية كما يكونان في خدمة المتعلق والغني والحاكم. العدل أن توضع إمكانيات الدولة تحت تصرف الشعب، فتبنى دور بسيطة صحية بدل أن تبنى للمترفين والموظفين القصور. وتحفر آبار لأهل البادية، بدل أن ينفق على شراء أفلام الخلاعة. وتستصلح الأرض للفلاح الصغير بدل أن تغدق القروض والتسهيلات على المالك المستكبر الذي يطرد الفلاحين من أرضهم يعضده في إثمه ابن عمه الحاكم وصديقه رئيس مائة شركة. وتبنى مدارس يعلم فيها القرآن والإيمان والخبرة) 13.

وفي الختام نخلص أن العنف لا مكان ولا عنوان له في فكر وتنظير الإمام المجدد رحمه الله، ولن نجد موقع أنملة له في مكتوباته ومسموعاته ومرئياته وتحركاته، إنما نجد كل الخير وكل الحب للوطن ومكوناته.  


[1] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد الثاني، ط 1979/1، ص 49.
[2] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ط 2023/2، دار إقدام للطباعة والنشر-إستنبول، ص 5.
[3] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 317.
[4] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 315.
[5] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 176.
[6] المنهاج النبوي، ص 16.
[7] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد الأول، ص 30.
[8] نفسه.
[9] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 300.
[10] العدل: الإسلاميون والحكم، ص 259.
[11] الإحسان، ج 2، ص 274.
[12] العدل، ص 260.
[13] المنهاج النبوي، ص 251.