جلست وسط فناء خيمتها المهترئة وعيناها الواسعتان ترقبان القادم من بعيد، أشعة الشمس الملتهبة تسدل خيوطها الذهبية تنثرها بسخاء على أستار الخيمة لتعكس بياضا ساطعا تزيده رمال الصحراء اللافحة توهجا… إنها سنة شهباء قاحطة… “عاتكة” العجوز الجَلدة، تحتبي مترنحة بفناء القبة كأنها تنتظر غيثا من السماء، كيف لا وهي التي اعتادت قِرى الضيف وإكرام عابري السبيل…
فجأة تطلعت، من ياترى ذلك الرهط القادم من بعيد؟ اشرأب عنقها، اتسعت مقلتاها… إنهم يقتربون على عجل، نعم أربعة من رجال العرب… لكن شيئا ما هز وجدانها، قلب كيانها، انتفضت من مكانها والفضول يملأ عينيها.
من ذلك الرجل؟!! أتراه بشرا! كلا إنما هو ملك كريم، نوره ملأ أرجاء المكان فتلألأ وسط الصحراء، لم تستفق إلا على قائل يسألها لحما وتمرا ليشتروا منها، أجابت وأنفة العرب تعلو ردها: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.
فالقوم مرملين مسنتين، والسنة مقحطة لا قطر ولا كلأ…
التفت الرجل، وحاشاه أن يكون بشرا بل هو ياقوتة وغيره حجر، فلمح شاة في كِسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ (أم معبد اسمها الذي عرفت به بين العرب) تطلعت مسرعة متفقدة فوجدت شاة هزيلة: لقد خلفها الجُهد عن الغنم، قال: فهل بها من لبن؟
استغربت السؤال، وهل مثل هذه الشاة تدر اللبن؟ ردت: هي أجهد من ذلك.
ازدادت غرابتها عندما استأذنها أن يحلبها… تلعثمت للحظة واستطردت قائلة: بلى بأبي أنت وأمي نعم إن رأيت بها حلبا فاحلبها.
أمسك الشاة بيد لم أر لبياضهما نضيرا، فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا… فتفاحت عليه ودرت واجترت…
كيف؟ هل هذا حلم!!! كيف يعقل أن تدر الشاة العزباء المجهدة لبنا صافيا لذة للشاربين!!!
ناولني الإناء وسقاني حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا وشرب هو آخرهم، أي أدب رفيع وأية بركة هذه…
ثم حلب فيها ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره، وأنا أمعن النظر فيه وأنتشي بالتملي في طلعته البهية…
ليته يمكث أكثر، تكاد نفسي تذهب حسرات على مغادرته، هل يكون هو ذلك الرجل الذي ما فتئ أهل قريش يحذرون من تصديقه واتباعه؟ أيكون بالفعل هو محمد؟! فلقد بلغني أنه هرب من قومه مهاجرا…
لن يكون إلا هو؛ محمد رسول الله، إذ عليه من مخايل النبوة، لم أر مثله قط؛ جميل الصورة، بهي الخصال، كريم الصفات، يكاد أصحابه يفتدونه بمهجهم وأرواحهم.
مكثت لحظات تغمرها السعادة والحيرة، أسَر الصادق الأمين قلبها، وحلَّ بسويدائه، “فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب حيال ولا حلوبة في البيت، قالت: لا، والله إنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد.
رأيت رجلًا ظَاهِرَ الوَضَاءة، أبْلَجَ الوجه، لم تَعِبْهُ ثُحْلَةٌ (ليس بضخم البطن)، وَلم تُزْرِ به صَعْلَة (ليس بنحيل)، وسيم قسيم (حسنٌ وضيءٌ بيِّن الحسن)، في عينيه دَعَجٌ (شدة سواد العين)، وفي أشفاره وَطَفٌ (شعر رمشه طويل منثن)، وفي صوته صَهَلٌ (حدة وصلابة من غير شدة: البحة اليسيرة)، وفي عنقه سَطَعٌ (في عنقه شيئًا من الطول، وكذلك نور وبهاء)، وفي لحيته كَثَاثَةٌ (كثرة والتفاف)، أَزَجُّ أَقْرَنُ (متقوس الحاجبين مع طولهما ودقتهما واتصالهما)، إن صَمَتَ علاه الوقار، وإن تكلم سما (ارتفع برأسه وعلاه البهاء)، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأجلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ لا نَزِرٌ ولا هَذِرٌ، كأن مَنْطِقَهُ خَرَزَاتٌ نَظْمٌ يَتَحَدَّرْنَ (تصف بذلك كلامه في حسنه وبلاغته وفصاحته وبيانه وحلاوته)، ربعةٌ لا يأس من طول (إلى الطول أقرب)، ولا تقتحمه عين من قصر (لا تحتقره العين حين تشاهده لأنه إلى الطول أقرب، وليس بالقصير، بل هو مهاب مقبول)، غصنٌ بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود (أصحابه يجتمعون عليه ويخدمونه ويسرعون في طاعته، وما ذلك إلا لجلالته عندهم)، لا عابس ولا مُفند (العابس هو الكالح الوجه، والمفند هو المنسوب إلى الجهل، وقلة العقل أي أنه كان جميل المعاشرة).
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً”[1].
سبحان من زرع في قلبيهما بذرة الإيمان وسط قحط قلوب غلف… سبحان من كسى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأبهى حلل الجمال.
يا لك من امرأة أيتها الصادقة التقية “أم معبد الخزاعية”، صدقت الوصف وصدقت الطلب فأتتك من الله البشرى، فهنيئا لك الزيارة السعيدة والبركة الأبدية، وهنيئا بما حل بقلبك من الهدى والاستنارة، حتى شاتك حازت الشرف دعاء نبويا ومسحة بيديه الشريفتين… ألم يقل الصادق الأمين سيد القوم خادمهم.
رسمت لمن بعدك صورة الجمال وهيبة الجلال لسيد الكمال ومسك الختام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
[1] رواه الإمام البغوي في (شرح السنة)، وفي كتابه (الأنوار في شمائل النبي المختار)، وخرَّجه الحاكم في (المستدرك)، وقال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله: إنه مشهور ومروي من طرق يشد بعضُها بعضًا.