الكل تابع ويتابع إنجازات الحراك العربي وتطوراته ومآلاته، والكل يتساءل عن مدى تحقيق الأهداف المسطرة، وهل انحصر التغيير في تغيير حكام مستبدين فحسب، عوض تغيير أنظمة وعقليات وسلوكات كانت إحدى سمات الممارسات السياسية في عهد تلك الأنظمة البائدة؟ أم أن التغيير كان يستهدف تكسير الحواجز المكبلة وترسيخ مبدإ الحرية المسؤولة لكل الفرقاء من أجل ضمان ممارسات سياسية شريفة تقبل بالخصم على أساس أنه خصم لا عدو ويبقى الاحتكام للاختيار الشعبي الحر عبر صناديق شفافة كتتويج مكمل للانتصار الثوري في الساحات والميادين؟
لقد استبشر الناس خيرا بانصهار كل المكونات والحساسيات في ساحات التغيير جنبا إلى جنب في مشهد ظننا أنه سيكون بداية لما بعده من تطويره إلى مستويات متقدمة احتضانا للثورة المجيدة وتحصينا لها من الانتكاسة، لكن خاب الظن في أول اختبار ميداني، فبعد كنس المستبدين وبداية بناء مجتمع ما بعد الثورة عبر توسيع الحريات وتنظيم انتخابات حرة طبعتها في البداية المنافسة الشريفة ليعقبها بعد ذلك الترقب والتوجس من نتائجها بعد ظهور ملامح التعاطف الشعبي الواسع مع المكون الإسلامي، فبمجرد الإعلان عن نتائج الاختيار الشعبي الحر الذي مال إلى كفة المشاريع ذات التوجه الإسلامي، سواء المتعلقة بانتخاب المقاعد البرلمانية أو انتخاب المجلس التأسيسي لصياغة الدستور وكذا الانتخابات الرئاسية، حتى انفض الجمع وبدأ الطعن في حليف الأمس وخصم اليوم ورفض مشروعه ورفض حتى وجوده أصلا وكأنه لم يكن له فضل في نجاح الثورة بل وتم الطعن حتى في أهلية الشعب في الاختيار لمن يمثله وكأنه قاصر!!!
إن التطورات التي عرفتها مصر هذه الأيام أظهرت حقائق لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، بل سيكون لها بصمة وتأثير على مستوى إشاعة جو الثقة المتبادلة بين الفرقاء السياسيين في الوطن العربي عامة، فكيف تحول ثوار الأمس بمصر (كنموذج) إلى أدوات لتصفية حسابات سياسية ضيقة وخدش الصورة المشرفة لشباب الثورة المجيدة؟
فهل أصبح البرادعي وعمرو موسى ثوارا أحرارا، وهم يقودون الثورة المضادة لشرعية الصناديق، بينما كانوا بالأمس فقط من رموز النظام السابق المستبد؟
وكيف انقلب موقف ثوار ميدان التحرير من كنس كل رموز النظام السابق إلى القبول بالتعايش معهم في نفس الساحة والسماح بحمل لافتات تلتمس العذر من الرئيس السابق مبارك؟
وكيف وصل الحقد والكراهية تجاه الخصم الإسلامي حد الاعتداء الجسدي على مناضليه رجالا ونساء وإحراق مقراته في مشهد تقشعر منه جلود كل حر شريف الفطرة؟
ألم يتساءل الثوار الأحرار لِمَ لَمْ تتدخل القوات الأمنية لحماية مناضلي الإخوان المسلمين ومقراتهم التي تعرضت أكثر من مرة للحرق والنهب والتخريب؟ ومن المستفيد من الفعل؟
أليس الصمت تجاه تلك الأعمال الإجرامية مشاركة في الجرم إن لم نقل هو تحريض بالوكالة عليه؟
كيف تحول مطلب ثوار ميدان التحرير من إقالة ومحاكمة النائب العام إلى المطالبة بإرجاعه بعد إقالته من طرف الرئيس المنتخب (مرسي) تنفيذا لمطالب الثورة؟
كيف تحول موقف ثوار ميدان التحرير من رفض تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي إلى المطالبة بالتدخل لإرغام الرئيس المنتخب (مرسي) على الاستقالة؟
أسئلة كثيرة تكشف بالفعل صدق الشعارات التي طالما تشدق بها الخصوم من اعتماد الديمقراطية كآلية لتدبير الاختلاف بين الفرقاء .
إن الأحداث الجارية بمصر كرست واقعا آخر لن تخرج منه بسهولة وستكون له تبعات كارثية على الاستقرار السياسي للبلدان العربية المماثلة، فالخروج على الشرعية وتجييش الشارع لإجبار الخصم على التنازل والتنحي تزوير وتدليس واستبداد وعودة إلى عهد الجبر والاستبداد والقمع والمنع وتحكم في الاختيار الشعبي الحر. فالمسألة ليست مسألة رئيس من هنا أو هناك، بل مسألة مصداقية لمرجعية يسارية علمانية أبانت عن قصورها وعجزها عن تقبل الآخر وتقبل مشروعه، بل حتى لو كان ينتمي لنفس المرجعية الإيديولوجية، ولكم أن ترجعوا لما يحدث أثناء مؤتمراتهم الحزبية والنقابية والجمعوية؛ إقصاء وتكييف للمجالس المنتخبة وفق التقاطبات الداخلية. إنها تربية وسلوك وُرِّثَ للأجيال اللاحقة. فنتمنى أن يراجع خصومنا العلمانيون هذا الإرث لأنه يزكي الكراهية للفكر المخالف بادعاء امتلاك الحقيقة وكأنها مقدسة وما دونها باطل وهي عين العقلية الاستبدادية المراد إسقاطها.