صباح الخميس 13 دجنبر من عام 2012م، انحشرتُ في سيارة الأجرة متوجّها إلى العمل، كنتُ حينها أستاذا في السلك الابتدائي، وعندما وصلنا إلى منتصف الطريق، وبالضبط مدار حي كاسطيا، انفتحت الطريق أمامنا، وبانت السّماء صفراء؛ شديدة الصُّفرة. وسيحضرني هذا المؤشر مساء ذلك اليوم دون أن أفتّش عنه كما يفعل عادة صيّادو “الإشارات”. ملت على أذن صديقي رشيد الذي كان بجانبي وقلت له: تبدو السماء بلون الحزن وسمته، أتذكّر أنه لم يُعلّق، فصباحات دجنبر الباردة لا تُشجّع عادة على الكلام ولو كان يحمل من الدّفء والرومانسية الشيء الكثير. تأمّلنا السماء بتثاقل قبل أن تغيب عنّا خلف البنايات الشاهقة.
ما إن بدأتُ درس التطبيقات ـ محفورة هذه التّفاصيل في ذاكرتي ـ حتى تكرّر اتصال أخي محمد على الهاتف، فلم أجد بُدّا من الجواب. ثقيلا جاءني صوته ومتهدّجا، وسريعا أخبرني أن “السي عبد السلام مات”. وحينما حوقلتُ بعد سكتة قصيرة، أحسست أن جميع تلامذتي ينصتون إليّ وقد شعروا بأنّ أمرا جللا قد حدث. عدتُ إلى الدّرس حزينا دون أن أعرف كيف قضيت ما تبقى من الزمن قبل مغادرة المدرسة، ولحدّ كتابة هذه الذكريات تُعد تلك “الفترة” ممسوحة من سجلّ ذاكرتي. أعرف جيدا مكر الذّاكرة وانتقائيتها، ولكنّني مهما عصّرتها فإنها تأبى الاستجابة ولو بشُعاع مما أطلبه.
أخبرت الإدارة بتغّيبي غدا، وسيعرفون بعد عودتي أنّني سافرت إلى الرباط لحضور جنازة مُعلّمي وشيخي ومُربّيَ.
سمعتُ، لأوّل مرّة، باسم عبد السلام ياسين عام 1990م، وأنا تلميذ في آخر الإعدادي، يوم دخلت جيوش صدّام إلى الكويت وما استتبع ذلك من ردّ غربي، وكانت الثانويات تغلي احتجاجا، وكانت أيضا تغلي استقطابا؛ فقد كانت التّيّارات الفكرية والسياسية قد وجدت المُناسبة سانحة لتوسيع صفوفها بجذب التلاميذ ودعوتهم للانضمام لمدارسها. لم يكن “الانتماء” مسألة تسبقها المَعرفة بأدبيات الحزب أو الجماعة والاقتناع بفائدتها وجدواها، بل مرتبطة أساسا بـ”مَنْ كان له السّبق إليك”، ليكن هذا واضحا، فعمري حينئذ لم يكن أبدا يُخوّل لي أن أعارض بين العقل والعاطفة؛ وقد سبق أحد أبناء جماعة العدل والإحسان إليّ! وها أنا اليوم، وعمري قارب الخميس، أتذكّر ذلك اليوم بحنين وعشق وحَمد، لأنّ القدر وضعني على هذه الطريق، واختارني، وبعث لي مَن أخذ بيدي، وأنا “مُراهق” لا يميّز، فعًلَك لي اللّقمة، وعلّمني وفهّمني وربّاني.
كان الأستاذ مُحاصَرا في بيته بسلا، وذكر اسمه كان كافيا لإثارة الهواجس؛ إنّه المُعارض الشّرس لنظام الحسن الثاني؛ المعارض بأسلوب مختلف عن المعارضات المعروفة والموجودة في الساحة السياسية؛ لأنّه يُعيد النظر في الأصول التي يقوم عليها النظام، أي أنه كان ينتقد “شرعياته”؛ هذا ما شرحه لي بلغة بسيطة “مَن سبق إليّ”.
شاركتُ في الاحتجاجات التلاميذية، وحضرت الحلقيات والأيام الثقافية، وقرأت المجلات الحائطية، ولكنّ أمرين كان لهما أكبر الأثر في نفسي يومئذ؛ مشاهدتي لشريط فيديو، في إحدى “اللقاءات الدّعوية” بعنوان “الوعد”، يصوّر المعاناة الفلسطينية مع جيش الاحتلال، ومازال لحن أغنية “ثوار” لمجموعة “روابي القدس”، التي كانت تتردد في الشريط، نابتا في بالي لحدّ الآن. والأمر الثاني؛ حصولي على نسخة أصلية من كتاب “نظرات في الفقه والتاريخ” للأستاذ ياسين. حملته مع كتبي بين يدي إلى المؤسّسة، وجعلته ظاهرا للعين، كنتُ أعلن فرحي للعالم، ولكنّ أحد أبناء الجماعة كان له رأي مختلف؛ لقد زجرني، ونبّهني إلى أنّ في سلوكي كثيرا من الخطورة.
قرأتُ بعض صفحاته، فهمتُ عنه مرّة أو اثنين، فلم أكن مُعدّا أبدا للتعامل مع أفكار كبيرة كالتي بثّها هناك؛ فقُصارى جهدي في القراءة يومئذ سلسلة المغامرون الخمسة، وسلسلة الرجل المستحيل وما اشْتُقّ عنها، وبعض نصوص نجيب محفوظ القصيرة.علأع ولكن امتلاكي للكتاب بحد ذاته كان حدثا تاريخيا بامتياز، وما أزال أحتفظ بتلك النسخة الزّرقاء تذكارا على تدشين مرحلة من عمري.
ذات ليلة، قُدّر لي أن أبدأ في مجالسة كلمات “الأستاذ”، عبر الاستماع أو مشاهدة سلسلتيه المشهورتين بـ”دروس في المنهاج النبوي”، و”أحاديث العدل والإحسان”، ومن يومها لم أتوقّف حتى أتيتُ عليها جميعا وقد تجاوزت الخمسين مجتمعة.
لم أعش ما يعيشه عامّة النّاس في “مرحلة مراهقتهم”؛ فقد وجدت نفسي في معمعان وَسَطٍ يقدّس الحركية والمسؤولية، ويُصَيّر من المرء رجلا قبل موعد أوانه. وكان أوّل ما فعلته، دون وعي بأنّ ذلك من جملة أهم النصائح التي يقدّمها أهل التربية للإنسان الذي يحمل إرادة التغيّر، أنِ انعزلتُ عن أصدقائي، ليس تكبرا أو احتقارا، بل لأنّني تشبّعتُ بأن استمرار علاقتي بهم ستُعيقني عن “مشروعي”، وهذا ما سأعرف لاحقا بأنّهم يسمونه بالزُّيال والمزايلة.
حينما وصلنا مدينة سلا، صباح يوم جمعة استثنائي، توجّهنا مباشرة إلى المسجد، حيث من المقرّر أن تُقام صلاة الجنازة. وجدنا الشوارع المؤدّية إلى المسجد غاصّة بالمُحبّين والمريدين والإعلاميين وغيرهم. أسرعتُ، رفقة منْ صاحبتهم في السفر، إلى المُصلّى، فاندهشنا لكوننا وجدنا أماكن فارغة، ولم نفهم، إلا متأخرين، أن الناس بقوا خارجا ينتظرون وصول سيارة الإسعاف تحمل جثمان “الأستاذ”، لعلّهم يفوزون بنظرة وداع أخيرة.
رغم إدراكي الجيد بأن خطيب الجمعة لم يكن باستطاعته أن يفعل غير ما فعله، فقد حزّ في نفسي أنه لم يُشر في خطبته ولو سريعا إلى الرجل الذي نحن بصدد الصلاة عليه؛ أعرف أنه كان مقهورا. وكما يحدث دائما فإن الجنازة كانت “جنازة رجل” كما أعلن المُسمّع حينئذ، ولكن “الرّجل” هذه المرّة كان حقيقيا، أصيلا، نادرا، وبالتعريف.
خرجنا بهدوء، وكأنّ على رؤوسنا الطّير. انطلقت الجنازة مهيبة بأعداد غفيرة، وتخلّفت النساء خلفنا؛ فليس من السّنة أن ترافق النساء الجنازة إلى المقابر. وطالت الطريق قليلا، لأن السلطات منعت مرور الموكب من أمام بناية البرلمان؛ كانوا يظنون أن “الجماعة” يمكن أن تحوّل المشهد إلى احتجاج، وهذا يدلّ على أنهم لا يعرف كيف تفكّر “الجماعة”؛ هذه جنازة “عالِم”، “مربّ”، “معلّم”، وسيذكر التاريخ أنها كانت تشبه جنازات “الأولياء” التي نقرأ عنها في كتب التراجم والمناقب والسّير، أما “الاحتجاج” على المظالم والاستبداد فله زمانه ومقامه، و”الجماعة” لا تفرّط حينئذ في ذلك.
كان أوّل مرّة أرى فيها “الأستاذ” بشكل مباشر؛ إنسان من لحم ودم، عام 1995م، في جمعة من أيام مهزلة “رُفع الحصار لم يرفع الحصار”. جلستُ بعد صلاة الجمعة، في مسجد بنسعيد، أحدّق في الرجل الذي تهفو إليه قلوبٌ وتشرئبّ إليه عقول، وأتعب ملكا ودولة. كان يرتدي سلهاما أحمر، ويتحدث بهدوء واطمئنان في موضوع لم أعرف كُنهه إلا بعد عودتي إلى مدينتي حينما استمعت إليه مسجلا، يومها كنتُ “مرفوعا” في “حال” و”وجد” صوفيين.
لن يُغادر “الأستاذ” محبسه إلا بعد خمس سنوات بعد ذلك، يوم اقتنع الحاكمون أن “اللّي دارها بيدّيه، يحُلّها بسنّيه”، كما يقول المغاربة في مثلهم الشعبي، ويوم غدا ملفّه يشكّل عبئا ثقيلا عليهم في زمن أرادوه أن يكون ـ ذرّا للرّماد في العيون ـ زمن تحولات عميقة، وزمن مفهوم جديد للسلطة.
اثنا عشر سنة بعد ذلك سيتأكد للجميع، وجنازة “الأستاذ” قريبة جدا من بناية البرلمان، أنّ السلطة ازدادت تغوّلا، لكن بتنويعات في الأسلوب وتغييرات في ظاهر الخطاب. وها هي إحدى عشرة سنة أخرى تمرّ، بعد وفاة “الأستاذ”، دون أن يتوقّف الانحدار، بل إنّ سرعته تضاعفت بشكل مخيف، وهي تقود البلد نحو المجهول/المعلوم.
عندما خرج “الأستاذ” من “رباطه” الذي دام عشر سنوات كاملة، وقد أراده خصومه أن يكون “مَكْسَرَتَه”، قطع البلد كاملا يزور تلامذته في المدن وبعض البوادي، وكان قمّة الوفاء منه أن دشّن خروجه ذاك نحو سجن القنيطرة، حيث يقبع اثنا عشر من أبنائه في السّجن محكوما عليهم بعشرين سنة “سياسية”؛ انتظره التلامذة على الجمر، ولكن “الاستبداد” كان له رأي مختلف، فاكتفى بمكالمة هاتفية معهم.
كنتُ يومها طالبا في آخر سنة من الدراسات الجامعية، وكنّا نحن الطلبة مَن سهر على التنفيذ أثناء زيارته لتطوان. ومن يومها غدت رؤيتُه، ومجالستُه، في “لقاء الأحد” و “لقاء رابطة الكَتبة” وغيرهما مُتاحا، وفي مناسبات عدّة.
قرأتُ كتب “الأستاذ” كاملة، وقد تجاوز عددها الثلاثين، عدّة مرات، وحاضرت فيها، وفسّرتُ غوامضها، كما أفهمها، في مئات الجلسات، ولكن القلم كان خصما عنيدا لي؛ فلم أكن أستطيع أن أحرّر مقالة ولو صغيرة حول بعض أفكاره وطروحاته وتقديراته، رغم إلحاحه في تشجيعنا أثناء جلسات “رابطة الكتبة”. وحسرتي ـ إلى حدود الآن ـ لا حدّ لها لأنه توفّي ـ رحمه الله تعالى ـ دون أن يقرأ لي، لأنّني لم ألج عالم الكتابة إلا بعد سنتين من وفاته. أقدّر أنه كان سيُعجب بأسلوبي، لسبب بسيط؛ وهو أنه كان يروقه جدا أن يتميّز أحد تلامذته ببصمة وأسلوب، وكان شديد التقدير لهذا الأمر.
معروف أن الكتابي لديه كان يتفّوق بشكل كبير، وبمسافة، على خطابه الشفوي؛ فقد أبدع في التُّعبير عن أفكاره واجتهاداته وتقديراته في مكتوباته، وهي التي تبقى، وهي التي يجوز الاحتكام إليها. كان ـ حفظه الله ـ يكتب بالليل، وصرير القلم بالنسبة له كان عبادة من جملة ما يتقرب به إلى الله تعالى. وكان يكتب بلغة عربية فصيحة أصيلة، تُحاكي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف؛ دعوية، تربوية العمق. وكان لا يُحابي في تقييماته وأحكامه ونقدياته. وقد جرّت عليه نصائحه السياسية للحكّام متاعب لا يثبت عنه أنه تأفّف منها أو رغب في التّعويض عليها، أمّا مناقشاته للسياسيين فقد جعلتهم يتبرّمون من شدّة الوضوح التي كانت تتّسم به.
وبدون أية مبالغة، يبقى كتاب “الإحسان”، بجزأيه، الأقرب إلى قلبي وعقلي؛ فهو موسوعة تربوية حقيقية، وأعدّه بثقة تامة السيرة الذاتية التربوية لأستاذي عبد السلام، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه لا تفريق لديه بين المسألتين العدلية والإحسانية؛ فهما معا مجتمعتان متآزرتان متكاملتان يُشكّلان عمق مشروعه التجديدي.
بعد وفاته، ظهرت “وصيته”؛ مكتوبةً ومسجّلة بصوته، وكان قد كتبها قبل ذلك بعشر سنوات. كان ـ رحمه الله ـ قد استعدّ لكلّ شيء، وهذا شأن الرّجال، بما في ذلك الجواب عن السّؤال الذي يُشتّتُ التنظيمات؛ وهو: ماذا بعد وفاة المؤسِّس؟