إثنتا عشرة سنة مرت على رحيل رجل يستحيل نسيانه. يعجز اللسان عن التعبير لما يخالج الصدر. ويصعب اختيار الكلمات للتذكير بأحوال الرجل. تذكرت وصفا للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله لصاحبه، بقوله “أحمدنا مدرسة الصبر”.
في هذه الذكرى نتذكر ونذكّر بخصلة ميزت الرجل: “الصبر”. مرت بأحمدنا فترات من التحديات البالغة والصعاب الجَمَّة، اقتحمها الرجل بفضل الله وعطائه برصيد وافر من الصبر العملي واليقين المبدئي. كلما حلت به ضائقة، أو أوجعه سقم أو أساء إليه أحد؛ توجه إلى ربه داعيا متضرعا، قائلا: “اللهم فارج الهم، وكاشف الغم، ومجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمني فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة مَن سواك”. بهذا القول وهذا اليقين عاش أحمدنا سعيدا رغم قساوة العيش، وعاش بصيرا رغم ضعف البصر، وكان قريبا من القلوب رغم بُعد الأمكنة، ونال محبة البعيد رغم جفاء القريب… بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين. قال الله تعالى في سورة السجدة: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ.
أتذكر يوما زرت فيه الإمام عبد السلام ياسين، سألني عن الحالة الصحية للوالد؛ أجبته قائلا: “الوالد يتألم بصمت، وأنينه ذكر، وحمده لله دائم، وشكره مستمر…”. بعدما تعرف الإمام على حال صاحبه، طلب مني كتابة كلمات أقرؤها على أحمدنا:
قال الإمام عبد القادر: نم تحت ميزاب القدر، متوسِّدا بالصبر، متقلدا بالموافقة، عابدا بانتظار الفرج. فإذا كنت هكذا صبّ عليك المقدِّر من فضله ومننه ما لا تحسن تطلبُه وتتمناه.”
قرأت رسالة المرسِل على المرسل إليه، وفرح بها فرحًا، وقال لي: “ذهب الألم وانشرح الصدر وزاد الشوق”.
وكانت آخر كلمات على لسانه، قول الله تعالى من سورة هود: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ. لتختزل نطقا في كلمة (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) ثم ( ..نُ..كُم..)، بعدها يتوقف اللسان عن النطق. يرن الهاتف، فإذا بصوت الإمام يخاطب صاحبه قائلا: “السلام عليك يا سيدي أحمد الملاخ، أودعك يا أخي. لا إله إلا الله عليها نحيى وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله، أنت الآن في ضيافة الرحمن، اثبت عند السؤال ولا يفتر لسانك عن ذكر الله”.
ويرفع آذان العصر وتفيض الروح الطاهرة لربها ليغادرنا أحمدنا إلى دار البقاء. حياة طيبة قضاها الأحمدان (سيدي محمد العلوي وسيدي أحمد الملاخ) في طاعة الله صحبة وجماعة أثمرت محبة ووفاء. وكتب الله لهما سيرا في الدنيا اقتحاما للعقبات، ونفس كلمات وداع الإمام لصاحبين وفيين، وجوارا في مضجعين على أرض سبعة رجال. وتركوا لنا أمانة في أعناقنا: تربية الرجال في مدرسة الصبر والوفاء.