أخرج ابن سعد في الطبقات أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة فاستعبر عمر (أي بكى).
إقرار صريح وطرح حي للحال الذي كانت تعيشه الأمة في ظل من حفظوا عرى الإسلام، مجتمع كان أقصى تخوفه عدم حفظ مال المسلمين ولم يكن يجول بخاطره يوما أن الدين سينحل وسيتاجر به والحكم سينقض على يد أغيلمة من قريش.
وهنا يمكننا طرح صورتين أو مقاربتين بين نظامي حكم عاشت الأمة في كنفهما. أحدهما يقوم على فرض الذات وحرية التسلط وغياب العدل وفي ظله انتقضت عرى الإسلام القائمة على الشورى والعدل والإحسان والوحدة.
انتقضت عروة الشورى حين ولي على أمور المسلمين ملك أرغم الأمة على مبايعة ابنه بيعة إكراه. انتقضت عروة الشورى حين غاب من يمثل ضمير الأمة، حين أصبح الملك وراثيا وأعلنها معاوية بن أبي سفيان صريحة فصيحة أنا آخر خليفة وأول ملك).
وتلتها عروة العدل، ففي حين كان المعيار الفاصل بين الخليفة والملك معيارا ماديا يقوم على الظلم في إدارة الأموال، وقع ما لم تتوقعه الأمة فأصبح الظلم العنوان البارز لتسيير أمور الأمة وحُمل الكافة على مقتضى “الغرض والشهوة” وهو ما أدى إلى انتقاض العروة الثالثة، عروة الإحسان، ذاك الكيان المعنوي للدولة الذي يشكل حصن الأمة، وتلك العروة التي كانت تقف حارسا ضامنا على قلب كل فرد فرد لتضمن بذلك تماسك الأمة وقوة دولة القرآن، فشاع الانحلال الخلقي واستسلمت له إرادة الأمة حين تبناه أمراؤها. ولنا في هذا شر مثال بالوليد بن يزيد وموقفه الشهير مع القرآن الكريم حين فتحه وهو في غيابات سكره لتقع عينه على الآية الكريمة واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) ليقول:
تهددني بالجبار العنيد
فها أنا ذا جبار عنيد
فإن لاقيت ربك يوم حشر
فقل يا رب مزقني الوليدوعلى هذا الحال من الفساد، قام الصدع بين الدعوة والدولة، فأضحت السيادة لذلك التنظيم الخواء وتلك الأركان والسواري الجوفاء بدون روح العدل والمساواة والإحسان وحسن الخلق، وأضحى الصراع على الرئاسة من المعروف الذي تراه العين بجلاء وهو ما أدى إلى انتقاض عروة الوحدة بانتقاض الكيان الهيكلي للأمة وتشتت بيضة الإسلام، أعاد الله عزة أمتنا وجبر كسرها وجعل عاقبة أمرها رشدا.
فبالنظر إلى تاريخ الأمة من (مخاضات التاريخ فقط) دون الرجوع إلى التشخيص النبوي نكون آنذاك قد ألغينا كل المنعرجات التي مرت منها الأمة واعتبرنا أن نظام الحكم من عهد الخلفاء الراشدين إلى عصرنا الحالي خط واحد، وبهذا نكون قد فندنا نظرية “الملك امتداد للخلافة”. أما بالرجوع إلى عهد النبوة واستقاء العلم من المعين النبوي الطيب وفقا لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من انكسارات ستطال الأمة وانتقاض لعرى الإسلام ابتداء من عروة الحكم سنؤكد آنذاك نظرية “الملك انقلاب على الخلافة”.
ولتمحيص النظريتين والوقوف عند الخط الفالق بين نظامي الحكم لا بد لنا من جرد أهم صفات الخلافة والتي تقوم على: حفظ عروة الشورى وذلك بتشكيل مجلس شوري يمثل عمق الأمة وضميرها، وحفظ عروة العدل بإحقاق الحق والقيام بأمور المسلمين على أحسن وجه، ولنا في هذا خير مثال بسيدنا عمر الفاروق وسيدنا علي كرم الله وجهه وغيرهما من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، وبهذا حفظت عروة الإحسان فشاع الصلاح والتقوى والتحامل على الرئاسة وتقديم المصلحة العامة على كل المصالح الشخصية. كل هذه كانت أساسات ساهمت في حفظ عروة الوحدة فبقيت بيضة الاسلام مجتمعة.
أي نعم قد يكون للرجال دور كبير في جمع بيضة الإسلام وتماسك الأمة، وقد يكون الخليفة منارا للأمة وعلما للهدى كما كان سيدنا عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين ولكن نظام الحكم هو مناط الخير والشر في المرتبة الأولى) 1 إما خلافة راشدة أو ملك ظالم.