منذ بداية القرن الواحد والعشرين عرف العالم تغيرات سياسية كبيرة جاءت نتيجة لانهيار المعسكر الشرقي الذي جسده سقوط ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة. حيث تبلور نظام عالمي جديد بقطب واحد، تنضوي تحته أقطاب صغيرة لها مرجعيات متقاربة تلتقي في اللبرالية العالمية. وهو ما أدى إلى تغيير كبير في الجغرافية السياسية حيث استقلت دول واتحدت أخرى، وغيرت الكثير من البلدان ولاءاتها التقليدية نحو ولاءات جديدة مثل ما حصل لأغلب دول أوربا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية. ولم يكن العالم العربي بمنأى عن كل هذه الأحداث الكبيرة، إذ تراجع منسوب الاشتراكية والقومية بشكل عام تاركا المجال لظهور تيارات فكرية جديدة من أبرزها التيار الإسلامي. كما أن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد “الإرهاب” كان من مخلفاته الزج بدولة مثل العراق في أتون خلافات طائفية عنيفة لا زالت مستمرة إلى الآن. غير أن العقد الثاني من القرن شكل أبرز المحطات العربية في التاريخ الحديث منذ فترة الاستعمار الإمبريالي إذ قامت ثورات في أغلب البلدان العربية لتطالب بمطالب جديدة تمثلت في إنهاء حكم الأنظمة الاستبدادية وتدشين عهود من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لكن غياب المثقفين عن مجاراة التحولات الجديدة التي طرأت في العالم عموما وفي العالم العربي خصوصا كان له كبير الأثر في تعثر إنضاج العديد من التجارب السياسية التي تعج بها المنطقة.
تراجع أدوار المثقفين العرب في ظل التحولات الجارية يعود أساساً إلى هيمنة المثقف ذي المرجعية الإيديولوجية سواء كان من مثقفي السلطة أو ما يصطلح عليهم بمثقفي البلاط، أو مثقفي الأحزاب والهيئات (قومية، ليبرالية، شيوعية، دينية…) وهو ما جعلهم بعيدين عن المجتمع وعن الواقع اليومي لحياة الناس، وبالتالي أصبح من الصعب عليهم تفسير معطيات الواقع كما هي، إلى أن تفاجؤوا برجات وتغييرات مجتمعية قوية عمت مختلف ربوع العالم العربي.
يتناول المقال التحولات الجارية في الراهن العربي خاصة ما أصبح يعرف بالربيع العربي. ولفهم الموضوع أكثر كان لا بد من تناول المرحلة التي كانت سائدة قبل هذه الفترة وما صاحبها من أسباب حثيثة عجلت بإسقاط أنظمة عتيدة عمر بعضها منذ فجر الاستقلال.
كما يتناول فترة الربيع العربي منذ بداياتها والتحولات التي لا زالت تتسارع في مختلف البلاد العربية، وبالأخص في البلدان التي تمكنت شعوبها من إسقاط رؤوس الاستبداد أو في البلدان التي فقدت فيها الأنظمة شرعيتها.
ونعرض للوضعية الحالية للمثقفين في الوطن العربي وأقسامهم، وخطورة انسحابهم من الساحة الثقافية والسياسية بعدما كانوا يشكلون الملاذ الحقيقي للأمة.
فالمثقف عموما هو من يستطيع تفسير بعض الظواهر المجتمعية من خلال دراستها وتحليلها، إذ أن دوره الأساسي هو فهم الظاهرة واستخراج المعنى، ومركزا بنظرة نقدية على ما يتعلق بالجانب الإنساني، مع امتلاك قدرة على استشراف المستقبل من خلال تحليل المعطيات ووضع بعض (المسلمات) التي تناقلها الأقدمون على مشرحة التحليل.
وهو بذلك من أشد الناس التصاقا بالمعرفة وأقربهم إلى تحكيم العقل والنقد، ومن أكثر الناس استعدادا للتعبير الإبداعي والإنساني عن هموم البشر وتطلعاتهم.
ومعلوم أن المثقفين لا يشكلون كتلة واحدة متجانسة موحدة الأهداف والاهتمامات، فهم جماعة متنوعة المهام، تخترقها المصالح والصراعات الاجتماعية.
فهم إما من مثقفي السلطة الذين استطاعت إخضاعهم بالترغيب والترهيب، الذين اصطلح على تسميتهم بمثقفي البلاط، أو من مثقفي الأحزاب المعارضة الذين خضعوا للعرض السياسي وأضاعوا فرصة ثمينة لنمو الفعل المعرفي باستقلالية مما أدى إلى تراجع مكانة المعرفة من (غاية) إلى (وسيلة). أو من المثقفين الأحرار من سيطرة (الوعي الإيديولوجي) الذين اختاروا العمل باستقلالية عن جميع الأطراف مع ارتباط قوي بنبض الشعوب مع الانفتاح على طرائق التفكير العلمي المفتوح على مختلف التجارب التاريخية، وبناء رؤى جديدة تتفهم الاختلافات القائمة، وما يترتب عنها من اجتهادات ومواقف، تعايشا دون تهميش، مما قد يشكل نقطة انطلاق لتجاوز الانحسار الثقافي وتراجع المشروع النهضوي.
لنخلص إلى الأدوار المنوط بالمثقفين العرب الاضطلاع بها والتي تبدأ بتهيئة أرضية جديدة صالحة لإنعاش الجو الثقافي، ومن ثم التأسيس لأدوار جديدة للنخبة المثقفة في ظل الواقع المتغير والجديد الذي أصبح يعيشه العالم العربي.
تكمن أهم إشكاليات الموضوع في دراسة الواقع العربي قبيل التحولات الجارية، لمعرفة الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انسحاب المثقف من ساحة قضايا أمته إلى درجة أنه لم يستطع التنبؤ بالتغييرات الحاصلة، فضلا عن مجاراتها بما تتطلبه آليات التحليل من قدرة على الكشف العلل الملائمة لها. وهو ما جعل مفكرين مثل الكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد يطرح ما سماه خيانة المثقفين). ذلك أن معظمهم فضلوا مسايرة طرح الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها القطب الوحيد الذي يهاب جانبه، وهو ما اصطلح عليه مفكرنا العربي منذ قرون عبد الرحمن بن خلدون مفهوم نحلة الغالب).
يقول إدوارد سعيد: في فترة ما بعد الحرب الباردة، يبقى السؤال: هل ستحكم الولايات المتحدة العالم بسياستها العسكرية-الاقتصادية القذرة، التي لا تعرف سوى الربح والانتهازية؟ والسؤال هل من الممكن تطوير مقاومة فكرية قوية وأخلاقية لسياساتها؟ بالنسبة لنا نحن الذين يعيشون في فضاءها أو مواطنيها، الواجب الأول هو أن نتخلص من إرباك اللغة المنحطة والرموز المستخدمة لتبرير الممارسات الأمريكية والنفاق لربط سياسات الولايات المتحدة في أماكن مثل بورما واندونيسيا وإيران وإسرائيل بما يجري فعله الآن في أوربا – جعلها آمنة لاستثمارات الولايات المتحدة وتجارتها – ولإظهار أن هذه السياسات متشابهة أساسا…) 1 .
لكن إشكالا آخر ليس أقل أهمية من السابق، وهو المرتبط بما تطرحه التحولات الآنية من تحديات تفرض أدوارا جديدة على المثقف العربي ينبغي له التنبه لها، وخاصة منها ما يتعلق بالانفتاح على مختلف التجارب التاريخية دراسة وبحثا دون السقوط في فخ وأد الاجتهاد الذي جعل من العديد من المفكرين ببغاوات مقلدين لما خطه السابقون، أو لما أقره أقرانهم الغربيون في بيئة غير بيئتهم، ومسار غير مسارهم. ثم استشراف المستقبل بنظرة تفاؤلية تكون قدوة لعموم الناس في تخلصهم من الاستبداد والهوان من خلال التأسيس لفعل جماعي مركب ينبني على التعايش بين مختلف المرجعيات ويروم تصحيح علاقة المثقف بمحيطه وبواقع الناس.
فما هو الاستبداد وما السبيل إلى مقاومته؟
الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسئولية فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب.
يقول العلامة عبد الرحمان الكواكبي في “مصارع الاستبداد”: وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية) 2 .
لكن آكد دور يناط بالمثقفين هو الاستفادة من دروس التاريخ عبر معرفة الكيفية اللازمة ، لذلك ولكيلا تسبقنا الأحداث، لكيلا ينحينا إلى الهامش حماس ثائر، أو كراهية لتاريخنا، أو قبول لمأثورات الفتنة غير مشروط، ينبغي أن نوطن الأقدام على مواقف راسخة برسوخ إيماننا بالله ورسوله وموعوده المنهاجي، وأن نرفع الهمة على هامة الزمان ننتعل الثريا لنستحق أن نكون تلامذة راشدين بين يدي) {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ } 3 .