ما فتئ نبي الرحمة الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يحث على لزوم الركن العظيم، ركن الصلاة عماد الدين، والتزام شروطها وآدابها. لكن ما كان الرجاء، وما كان الطلب وما كان المرام، وراء إلحاحه صلى الله عليه وسلم “أرحنا بها يا بلال”؟
راحة منشودة في الصلاة من قبله صلى الله عليه وسلم، طلب للكمال ولتجليات الفيض الرباني، استمطار للرحمات واستلهام للنفحات. انتظاره صلى الله عليه وسلم للصلاة توق وشوق دائمان للقاء الحبيب، وهذا لا ريب دأب الأنبياء والأولياء؛ الطلب الدائم للوصول وأمل القبول منتهى آمالهم، ولهذا قال عز وجل على لسان موسى عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (طه، 84).
الصلاة صلة، الصلاة قرب وتودد وافتقار، هي مصدر صلاح وصفاء ونقاء وخلاص، مفتاحها طهارة، والانغماس فيها إكبار وجمال ونضارة، تحط عنك كل وزر وخطيئة وعناء، وتدفع عنك كل حزن وهم وبلاء، وفي هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمساً، هل يُبْقي من درنه شيئاً” (أخرجه البخاري)، وفي رواية مسلم: “هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا”.
“أرحنا بها بلال” إيذان بإقام الصلاة حيث الرضا والأمان، حضور تام لقلب مطمئن بالإيمان، خلوة تغنيك وتكفيك كل البلايا والأحزان. فهذا سيدنا عروة بن الزبير الصحابي الشامخ بصبره، الموقن بربه، لم يجد أنسب لبتر ساقه من لحظة سمو روحه وعروجها إلى بارئها أثناء صلاته، انقطاعه إلى الله أنساه ما سواه، لم يلتفت، ولم يكترث لساقه المبتورة، بل اعتبرها جزءا منه تسبقه إلى ربها شاهدة عليه أنه لم يسع بها يوما في غير مرضاته سبحانه.
“إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أصلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر” (رواه أبو داود والترمذي والنسائي)، هذا ما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. إذن فهي المبدأ والمعاد، وتدور في فلكها باقي الأعمال، وبالتالي وجب تعظيمها.
نبدأ بتجديد نية الإقبال على الله تعالى، فلطالما أديت على نحو العادة، بل قد يستثقلها القلب والجوارح بدافع هوس الانشغال اليومي الدائم، تعظيمها بالاستعداد القبلي المشوب بالإحسان؛ زينة وطيب للمكان والأبدان والوجدان خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (الأعراف، 31)، المقصد هنا أن الزينة لم تخص من يخرج للمسجد فقط بل كل من هم أن يقوم للصلاة بين يدي ربه، وكذا تخصيص ركن أو زاوية في البيت تكون بمثابة محرابك الذي يصلك بالله ويفتح أمامك باب الأوبة والإنابة.
الصلاة مسلك الإحسان وهبة الرحمان، لم يخل نبي إلا جعلها نبراس دعوته، حرص عليها الصادقون، ونظروا إليها بعين التعظيم والجلال والكمال، فغنموا من فيض نورانيتها، وحزنوا إن تأخروا عن نفلها، يبيتون بين راكع وساجد، ولئن فاتتهم سجدة في جوف الليل، تحسروا على ما فاتهم من فضل وحسبوا ذلك حرمانا، بل اعتبروا بقاءهم في الدنيا رهينا بسجدتهم تلك، قال أبو الدرداء: “لولا ثلاث ما أحببت البقاء؛ ساعة ظمأ في الهواجر، والسجود، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما ينتقى أطايب التمر”.
فما أعظمها من قربة، وما أجلها من عطية أنعم بها القدير علينا، وجعل حبيبه ومصطفاه خير العابدين وإمام الساجدين فخاطبه بقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (الشعراء،217 – 219).
جعلنا الله تعالى من مقيمي الصلاة صدقا وحقا، ووفقنا لإتيانها على الوجه الذي يرضيه عنا، وهدانا سبل المحسنين. فإنه وكما قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “يستحيل أن يكون من المحسنين من لم يكن أولا وأخيرا من العابدين” (الإحسان).