تتعدد أزمات المغرب الاجتماعية بتعدد مكامن الخلل الناتجة عن اختيارات اجتماعية وسياسية واقتصادية للدولة في سياق عالمي تسعى أهم دوله للانغلاق على مصالحها الوطنية وإعادة تشكيل العالم المفكك والمتناثرة أجزاؤه عبر أقطاب متعددة، مع ما يرافق ذلك من نقاشات حول تنامي السياسات الحمائية في وجه حرية التجارة العالمية واستفحال شروط المؤسسات المالية العالمية وتدخلاتها الاستعمارية بما يسرع من وتيرة “الاغتيال الاقتصادي للأمم” وتفريخ عدد من الدول الفاشلة وما يستتبعه من تأثيرات سلبية على القوى العاملة وهجرة ونزوح قوافل من المحرومين والمفقرين.
ليس من شأن هذه المقالة الترويج لنصف الكأس الفارغ أو تسويد الوضع أكثر مما هو، بل هي تهدف لوضع الأصبع على مكامن الاختلال وتلمس بعض مداخل الحلول مع التأكيد على الدور التاريخي للفاعل النقابي.
أزمات المغرب الاجتماعية
الأزمات في المغرب تمثل واقعا مستفحلا وعاما يشهد به النظام نفسه بتصريحاته وإحصائيات مؤسساته الرسمية التي تتحاشى إبراز قتامتها وعمقها، وهو التفسير المنطقي لتأخر نشر عرض المندوب السامي للتخطيط حول “خريطة الفقر متعدد الأبعاد” من 2014 إلى 2017 على سبيل المثال لا الحصر.
وتتسع خريطة الأزمات بالمغرب لتشمل: الصحة والتعليم والسكن والتشغيل والبنيات التحتية واتساع دائرة الفقر والهشاشة وغلاء الأسعار المرتبط بالتحرير العشوائي للمحروقات والفوارق المجالية بين الحواضر والقرى وبين الجهات الغنية والفقيرة…
في افتتاح السنة التشريعية 2017 أعلن الملك عن انتهاء “صلاحية” النموذج التنموي الرسمي، الذي أسس له مع السنوات الأولى لحكمه، والذي تمثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أبرز أوراشه، والذي التهم مبالغ مالية ضخمة من دون أن يزحزح ترتيب المغرب المتأخر في سلم التنمية البشرية (الرتبة 123 سنة 2018).
وسجل تقرير رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي أمام البرلمان بغرفتيه في 23 أكتوبر 2018 أن “المغرب لم يتمكن بعد من تقليص الفوارق والحد من مظاهر الفقر والتهميش التي تعرفها الساكنة في العديد من مناطق وجهات المملكة”.
على أن كل حديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية بعيدا عن تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لا يتجاوز كونه دغدغة للعواطف وتفريخا لأزمات جديدة ومركبة.
مداخل الانعتاق
لا يمكن بداية الحديث عن أي أفق للانعتاق من دون الإحاطة بـ”بنية النظام السياسي المغربي” الذي تمثل الملكية دورا مركزيا ومحوريا في تحديد قواعد لعبته السياسية وعامل ضبط للمجال السياسي فيه، بما يجعل الفاعل الحزبي مجرد وسيط بين دوائر الحكم والشعب ومشاركا في التدبير محليا من خلال المجالس الترابية ووطنيا من خلال البرلمان وباقي المؤسسات، كل ذلك ضمن نسق سياسي منغلق ومتحكم فيه.
الحديث عن مداخل الانعتاق تتنازعه رؤيتين متباينتين:
1) الرؤية الإصلاحية: الدينامية التي أطلقها حراك الشعب المغربي وتوجت حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة حملت معها أماني كبيرة لإصلاح الأوضاع والوقوف في وجه لوبيات الريع والفساد وناهبي المال العام تحت شعار براق: ”إسقاط الفساد و الاستبداد” ما لبثت أن خمدت وتحولت لنقمة عارمة مع توالي التطبيع مع مراكز الفساد وعدم الوفاء بالشعارات المرفوعة والمشاريع المسطرة في البرامج الانتخابية.
لقد نسي أو تناسى المبشرون بالإصلاحات أن المتحكم الأساس في الحقل السياسي الرسمي هو ”المخزن” و أنه هو صاحب ”الشرعيات” الجماهيرية/الشعبية والدينية والتاريخية… وأنه لا يقبل أن ”يشرك به” في هذا الباب، وأن إرضاء المخزن بتمرير كل المشاريع المجحفة من ”إصلاح صندوق التقاعد” وفرض التعاقد والسعي الحثيث لإلغاء صندوق المقاصة وتحرير أسعار المحروقات وتجميد الأجور… هو بمثابة انتحار سياسي وقتل لآمال المنتصرين لهذه الرؤية.
وحيث أن قواعد اللعبة السياسية المرسومة بعناية لا تسمح بفرز حزب قوي قادر على تشكيل حكومة منسجمة ومقارعة دوائر السلطوية والفساد وفرض الإرادة الشعبية، وحيث أن أقصى ما هو مسموح به للرؤية الإصلاحية هو ضخ كوادر ونخب في “ماكينة” النظام القائم لإعادة إنتاج نفسه وتجديد دمائه مع سعي حثيث لفرملة الديناميات الشعبية تحت مبررات الظرفية الاقتصادية والإكراهات المالية والتوازنات الماكرو اقتصادية والحرص على السلم والاستقرار الاجتماعي… لكل ذلك تبقى هذه الرؤية قاصرة عن إحداث أي بصيص إصلاح إلا ما ”تقطره” الدوائر الحقيقية لصنع القرار بالبلاد منعا لانفجار محتوم.
2) الرؤية التغييرية: أصحاب هذه الرؤية ينطلقون من استحالة إحداث أي تغيير من داخل نظام سياسي قروني متمرس وبارع في ترويض معارضيه من كل التيارات؛ إسلامية كانت أو يسارية أو غيرها، والتجارب القريبة تعضد رؤيتهم مع استحضار تجربتي الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية.
إن السعي للتغيير باعتباره مرحلة متقدمة للفعل مؤسسة على الوعي الشعبي باستحالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه من فساد واستبداد، مسألة في غاية التعقيد تتطلب أساسا:
قناعة راسخة بضرورة التغيير وحتميته، واصطفاف المطالبين بالتغيير في جبهة شعبية موحدة، والتوافق على استراتيجية للتغيير تتضمن: الرؤية والرسالة والأهداف، وتسطير أهم مراحل التغيير وتقييمها بشكل مستمر.
أين الفاعل النقابي من كل هذا؟
القراءة الواعية للعمل النقابي ومهامه التغييرية بالمغرب يجب أن تستحضر ما سلف لرسم أفق التغيير الاستراتيجي، إذ بالقدر الذي يجب رسم خط فاصل بين النقابة والسياسة الحزبية وجب استحضار الأفق السياسي التغييري لمجمل الفعل النقابي، تصورا وخطابا وممارسة نضالية، حتى لا يكون معزولا عن السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الوطنية والإقليمية والدولية.
إذا افترضنا جدلا وجود إطار نقابي جماهيري وديمقراطي ومستقل ووحدوي ومتضامن بالمغرب، وهذا بالمناسبة من المهام التاريخية الملحة التي تقع على الشغيلة وكل المهتمين والغيورين على العمل النقابي، تتجلى أدوار الفاعل النقابي الأكثر تأثيرا و فاعلية في:
1- تحقيق المطالب المعنوية الضامنة لكرامة الشغيلة والاعتراف بأدوارها التاريخية في الإنتاج والبناء.
الكرامة أولا من حيث أن العامل كائن بشري مكرم من خالقه، و ليس دابة خلقت للأكل والشرب والتزاوج فقط والصراع على المادة مع استبعاد جوانبه المعنوية والروحية.
2- تحقيق مبدإ العدل في الأجور والتعويضات والتغطية الصحية والتقاعد ومجمل المقابل المادي للقوة العاملة المنتجة.
3- تشكيل قوة ضغط من خلال جبهة نقابية متعددة المكونات وموحدة في استراتيجيتها التغييرية، مع القدرة على احتضان كل التعبيرات الاحتجاجية المستجدة في ساحة النضال، والإفادة من إضافاتها النوعية في مدافعة تغول المشغل إدارة أو رأسمالا.
وختاما، إنك لا تجني من الشوك العنب فلا تنتظر الشيء من غير أصله
إن سعينا للتفاؤل في ظل الوضع القائم ومحاولة تجميله وقول نصف الحقيقة يكاد يلامس موقف التواطؤ ضد الوطن، معظم النخب المستفيدة من الوضع الحالي تقايض صمتها بريع زائل وتتحاشى قول الحقيقة والقيام بوظائفها في التأطير والتوعية والتبشير بتغيير ما، بما يجعلها متجاوزة ومتخلفة عن الحراك الشعبي الذي تؤججه السياسات الانتقامية وانسداد أفق الحوار غير القمع والأحكام الثقيلة.
والتاريخ يسجل والجوار الإقليمي يعطينا الدروس والعبر: ”دينامو الحراك السوداني” إطار نقابي يسمى تجمع المهنيين، وفي تونس رعت النقابة الحوار المجتمعي بين الفرقاء السياسيين والإديولوجيين، وفي الجزائر نزلت النقابات بثقلها لمقارعة العسكر…