عندما فرغت من الاستماع إلى جديد الفنان المغربي رشيد غلام الغنائي “هنا غزة” 1 كلمات الشاعر الفلسطيني جهاد الترباني، أحسست أني أتذوق فنا من طراز خاص. وعندما أبُث للقارئ الكريم هذا الإحساس، فلا أعني أني أصدر عن تخصص دقيق في النقد الموسيقي، أو عن مقاييس تضع خصائص الصنعة الفنية في هذا النقد وأدوات تنفيذها في الحسبان.
لكن إن كان لي من مسوغ للتفاعل مع هذه التجربة الفنية التي يَطرُق بها صاحب “يا جمالا” أبواب المجد الفني بكثير من الثقة والاطمئنان، فلِعلمنا جميعا أن النماء في الثقافة والفن ليس بمقدوره أن يتحقق بمعزل عن رافعة الجمهور تفاعلا بالنقد البناء، والخلجات الصادقة المبثوثة.. وإلى أن يُفوَّض الأمرُ إلى من يحسنه من فرسان التخصص، وإلى حين أن تُعطى القوسُ باريها، أسجل بذوق المتلقي المصغي لأعمال هذا الفنان المحترم بعض الأسئلة المشفوعة بخالص التهنئة على أعماله الفنية المتميزة.
إن أهم ما يشد النظر في تجربة الفنان غلام، هو التناغم الذي سجلته في الآونة الأخيرة مع هزيز رياح الربيع العربي، حين تحولت أغانيه إلى بيانات تنضح بالثورة على الاستبداد والمستبدين، وتُعلي من شأن المسألة الشعبية في البحث عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية… فمِنْ “عَلِّيوْ الصَّوتْ”، مرورا بــ”عَاشَ الشَّعْب”، و”طَالِعْ”.. وصولا إلى توجيه البوصلة الفنية صوب الجرح الفلسطيني في غنائيات: “رسالة إلى غزة”، ” فلسطيني أنا اسمي فلسطيني”، و”حماس القدس”، وأخيرا “هنا غزة”…
وهنا يقع السؤال: هل يلوذ الفنان غلام بهذه القضايا، وبالقضية الفلسطينية تحديدا، ويتمسح بسحرها الهيَّاب ليعلو شأنا؟ وهل يعيد بهذا التوجه الفني النقاش حول الفنانين الذين صنعتهم القضية الفلسطينية؛ إذ لولاها لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من صيت لدى المتابع العريض لها. خاصة أننا لا نرى قضية اتسع جمهورها كقضية الشعب الفلسطيني، ومَنْ يخاطب هذا الجمهور الذواق والواسع فهو يسبح في بحر لا ينتهي؟.. وللحقيقة النقدية التاريخية فلَشَدَّ مَا شكَّل ثقل القضية الفلسطينية، ركنا شديدا آوت إليه نخبة من المبدعين، الذين كان لأعمالهم الصدى الكبير لِحجم المظلة التي تحدثوا في ظلها الوارف…
إن المتتبع لمسيرة رشيد غلام الفنية التي تناهز الثلاثة عقود، يقف على حقيقة مفادها أنه يعد من الفنانين الذين اعتمدوا في نجاحاتهم على سواعدهم. وأنه واحد من المبدعين الذين وُلدوا -كما يقول محمود درويش- “بالتقسيط”، وليس “دفعة واحدة”.. وأنه من الذين ألجأهم قدرهم الفني إلى النحت على الصخر، فيما يغرف غيرُهم من بحر، بسبب التضييق الذي يتعرض له في بلده الأم المغرب. ولا أدري كم من علامات الاستفهام والتعجب والدهشة والاستغراب والأسف نضعها لتفسير هذا التضييق؟! إنها ضريبة الفن الأصيل الذي يأبى أن يرادف التهريج.. لكن ليس في “وسع السجون أن تقتل الأنفاس، وقتل الحياة في الأعماق”، -كما تقول الشاعرة الفلسطينية- فدوى طوقان في إحدى تغريداتها الشعرية.
غير أن سبيل “نَفْسُ عِصامٍ علَّمتْ عِصاما”، الذي سلكه الفنان غلام لا يُنسينا الاعتراف ما للصنيع الفني الأخير في تجربته الغنائية من أسبابِ الدفع بها نحو الرسوخ في عوالم أفسح. ففي مقام الحديث عن فنياته الفلسطينية، لا ريب أن بريق القضية زادت هذه التجربة رسوخا في الفن الرسالي، ودخولا إلى فضاءات أرحب، بما فيها الانفتاح على عديد جماهير القضية المقدسية التي لم تكتشف بعد إبداعات هذا الفنان. هذا فضلا عن الكسب الاعتباري الذي تضفيه القضية على الواقف على أعتابها.
ومن جانب آخر نتساءل: هل هذا التحول هو تخلٍّ عن تجربة غنائية طويلة في العشق الإلهي والجمال المحمدي مثلتْ مرحلة التوجه نحو السماء، في حين مثلت التجربة الجديدة لحظة التوجه الفني الأفقي على الأرض؟ وفي المقابل هل سنشهد تطورا وامتدادا آخر لهذه التجربة؟ أعتقد أن من يتابع مسيرة غلام الغنائية يرى أن المرحلة الأولى كانت تثبيتا لأصل هو تجربة غنائية روحية إنسانية عميقة، وتجديدا فيها.. تلا هذه التجربة مرحلة ثانية هي فرع عن الأولى، جسدها التغني بالإنسان في تطلعاته نحو الكمال البشري في العيش الكريم الخادم للأصل السابق.
وقبل الختام، ولأني لا أحب أن تضع هذه الأسطر نفسها في خانة “المجاملات النقدية”.. أذيل حديثي إلى الأستاذ رشيد غلام بكلمة خفيفة عن “الأداء اللفظي”. فالكتابة الفنية لديه تشكو -فيما أعتقد- في بعض جوانبها من الحاجة إلى جرعات رمزية أكثر خاصة في أغانيه التي دبَّجها عن قضايا الاستبداد والتحرر منه.. وما حديثي في تجربة غلام عن ضياع اللمحة الرمزية أحيانا في كلمات بعض أعماله الفنية، إلا لأنَّ لِعناصر الفن الغنائي مراتب يجب أن تُحفظ: منها مرتبة في الصوت، وهي -لعمري- يعلو فيها غلام شأوا مائزا بشهادة كبار الفنانين، ومنها مرتبة التعبير بالكلمة الموحية ذات النَّفَس الشعري، والبعيدة عن الإغراق في السطحية المُباشرة… ومهما يكن من أمر هذه التجربة الفنية، فإني أعتقد أن في جعبتها الكثير من الإلهام، وأن في انتظارات الجمهور أكثر مما يتوقعه غُلام.