إن الامام المجدد عبد السلام ياسين قد أثل نظرية تغييرية اعتمد فيها على صحيح الكتاب والسنة، واستلهم فيها تجارب الأمم والشعوب، وقراءة حصيفة للتاريخ الإسلامي من أعاليه على ضوء الأحاديث النبوية التي تنبأت بمستقبل أمة الإسلام، أضف الى ذلك كله ما حبا الله به هذا الرجل من يقين بموعود الله باستخلاف الذين آمنوا في الأرض، وبشارة رسوله صلى الله عليه وسلم بالخلافة الثانية على منهاج النبوة.
ولقد كانت أسئلة وأجوبة التغيير في فكر وممارسة الرجل واضحة، إلا أن ما تعرض له من حصار، ومنع فكره من أن يصل إلى الناس، وتحامل بعض ذوي النيات السيئة عليه، كل ذلك شكل حجبا بين ما يدعو إليه وبين الكثير من الناس، الذين لو عرفوا الرجل ودعوته على حقيقتها، لما ترددوا في استلهام تجربته ونصرة ما يدعو إليه.
ومساهمة منا في كشف الحجب عن فكره خاصة ما يتعلق بنظرية التغيير عنده، سنحاول في هذه الورقة الوقوف عند بعض الأسئلة الجوهرية التي طرحها في هذا المجال، مع إحالة على بعض الإجابات المختصرة، ولمن يريد التفصيل الرجوع إلى ما كتبه الإمام في أزيد من أربعين كتابا قيما كلها تغني الفكر وتوجه الهمم نحو المعالي، وتذكر الإنسان بمصيره الأخروي مرتبطا بمصير أمته ومصير الإنسانية جمعاء.
فما الغاية من التغيير الذي يقترحه الإمام؟
إن كل الأعمال متعلقة بغاياتها، وإن الغاية من التغيير الذي يقترحه الإمام المجدد رحمة الله عليه تختلف عن الغايات الجزئية، التي تنصرف إليها النظريات السياسية المنقطعة عن الوحي، أما النظرية التغييرية المسترشدة بالوحي فلا شك أن غايتها شريفة، وهذه الغاية هي تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي الاجتماعي، إنها التوبة الفردية والعامة، وهذه التوبة هي الغاية وهي الوسيلة في نفس الوقت وبها يتحقق التغيير الجذري العميق قي نفس ووجدان الإنسان/المؤمن والمؤمنة. فينقلبان من الأنانية المرسلة الهائمة، ومن العقلية المنكمشة في سياق ثقافتها أو أميتها، ويتحرران من العادات الممسكة عن الخير، الساكتة عن المنكر لا تنهى عنه، وعن المعروف لا تأمر به، وعن علم الحق لا تتعلمه ولا تعلمه، وعن المعونة لا تبذلها، وعن العمل الصالح لا تتآزر عليه، وعن التميز الذي أمر المؤمنون أن يتميزوا به ليكونوا شامة خلق وسلوك بين الناس، وعن الرفق والتؤدة، وعن الصبر والمصابرة، وعن الجهاد.
فغاية هذا التغيير إذن هو نقل الإنسان من حالة إلى حالة أخرى، من حالة اللامعنى والتيه إلى حالة الكينونة الإيمانية المرتبطة بالصلاح في القول والفعل، في الفكر والممارسة.
ومن أين مبتدأ التغيير وإلى أين منتهاه؟
نحتفظ هنا بنفس الصيغة التي طرح بها الإمام هذا السؤال حيث يقول في حوار مع الفضلاء الديمقراطيينّ: “تطرح بين الإسلاميين، وبحدة، مسـألة من أين يبدأ التغيير؟ بانقلاب من أعلى يفرض بوازع السلطان ما يوجبه القرآن، أم بتنشئة بطيئة صابرة لأجيال الخير حتى يأتي التحول من الجذور؟”.
والحقيقة أن هذا السؤال لا يتعلق فقط بالإسلاميين لكن تخصيصهم هنا له ما يبرره؛ لأن التغيير في المجتمعات الإسلامية أصبح مرتبطا بالحركة الإسلامية لما لها من امتداد شعبي ولما يمثله الإسلام ومبادئه في وجدان المسلمين.
وحصل للإمام في اجتهاده المرتبط بهذا السؤال وجود اتجاهين:
– الأول يبني استراتيجيته على حساب التغيير من أعلى، يعطيه الأسبقية، ويسارع إلى هدم الكيانات الفاسدة بجهاد مسلح. وهذا الاختيار مآله الفشل في غياب قاعدة مجاهدة تبلغ حدا أدنى من الامتداد وقاعدة معنوية خلقية قوامها ثقة الشعب واستعداده.
– الثاني نظر آخر لا يستعجل، بل يترقب الأفق البعيد الذي ينبت الله فيه الذرية الإسلامية نباتا حسنا يحيي الله به الأرض بعد موتها. ومنزلق هذا الاختيار هو إدمان النظر إلى الأفق البعيد يوشك مع الزمان أن يسترخي، ويكل إلى الأجيال غير المسماة حمل عبء كان الأحق أن يبادر هو إليه متى فتح الله.
ويعتقد الإمام أنه من الخطإ اتخاذ أحد طرفي المعادلة منطلقا مبدئيا ثابتا وإغماض العين الأخرى. فلكلا النظرين اعتبار؛ إذ ترقب الأفق البعيد ضرورة، واقتحام معاقل المستبدين والمفسدين واجب. ومهما يكن فالتغيير ليس طفرة، وليس مائدة تنزل من السماء، وإنما جهاد مستميت وتدافع هدفه النهائي تحقيق الخلاص الفردي والجماعي.
وما هي شروط التغيير؟
أجمل الإمام شروط التغيير في ثلاث خصال:
– قابلية التلقي: إن قابلية تلقي المشروع التغييري لابد فيه من شروط تتعلق بالمشروع ذاته كوضوحه في أهدافه ووسائله ومراحله، وقابليته للتنفيذ، وحسن العرض والتبليغ، وشروط في المتلقي وهي القدرة والصدق والتحفز إلى تحقيق أهداف التغيير.
– وتحمل المسؤولية: ذلك أن للتغيير ثمن، والحركة الإسلامية في الواقع الراهن في مرحلة دفع الثمن ومكابدة الصعاب، ومن تحمل المسؤولية استحضار رفق الإسلام وتلطف الإسلام وصرامة الإسلام، وجهاد الإسلام لتمييز الخبيث من الطيب، كل ذلك في موضعه الشرعي .
– والثقة في القيادة: نعم اذا أعطت القيادة والمقودون براهين الصدق، وكانت القيادة ربانية وتخلصت من حظوظ النفس والأهواء.
وما موقع الأمة في التغيير؟
إن التغيير الذي ينشده الإمام رحمه الله هو تغيير بالأمة من أجل الأمة، ولذلك فهو مشروع أجيال، وتربية دؤوبة لا تكل ولا تمل، ويظل التغيير هَذَرٌ بدون قاعدة يتفق عليها السواد الأعظم، وينهض لإخراجها من حَيِّزِ الأمل إلى حيِّـز التطبيق. وهذه مهمة لا يستطيعها إلا مؤمنون ومؤمنات تابوا إلى الله توبة نصوحـا فتأهلوا لحمل القرآن. من جملة مؤهلاتهم وضرورياتها المروءة، مروءة يطبعها الدين بطابع القَبول عند الله الملك الديانِ.
وما هي عوائق التغيير؟
كل تغيير تعترضه عوامل مقاومة، وقوة معارضة لا تريد ولا تسمح للتغيير أن يحصل، والتغيير الإسلامي المنشود له أعداؤه ومناوئوه، يتصدون لكل جهد في اتجاه تحقيق مقتضياته. ويأتي في مقدمة هذه العوائق:
– قوى الرأسمالية المحلية ومحتضنيهم من دهاقنة الرأسمالية العالمية.
– دوائر الماسونية والصهيونية الماكرة.
– الدعوات العرقية والعصبيات القومية واللغوية المتطرفة.
– التربية المضادة التي يلقنها صنائع الاستعمار لأبناء الأمة.
وأخطر من كل ذلك، هو القوة السالبة وخمول الإرادة لدى أبناء الأمة، ولذلك يتحدث الإمام عن الذهنيات الثلاث التي تقف سدا منيعا أمام التغيير وهي:
الأنانية المستعلية التي تمنع صاحبها من تلقي دعوة الحق لتغيير ما بالأنفس وما بالأمة.الذهنية الرعوية التي تنقاد لكل ناعق وتنجر وراء كل دعوة ولو كانت هدامة.العادات الجارفة، ولقد ألف الناس خاصة في مجتمعات الاستهلاك عادات تجرف إلى مهاوي الخسران والهلاك، فهل من سبيل للخروج من دائرة العادات إلى فساحة الأعمال التعبدية المقتفية أثر السنة النبوية والمنهاج النبوي؟
هذا وإن التغيير الذي أراده الإمام لابد له من كفاءات إيمانية وقيادات ربانية رفيقة رحيمة شديدة في الدفاع عن شريعة الله عالمة بمراحل التغيير وسننه، مدركة لسنة الله في الأنفس والآفاق والتاريخ، ولا بد من اجتهاد وجهاد، ولابد من حوار وإقناع، ولابد من صبر ومصابرة، ولا بد من بذل وعطاء وتضحية والله يتولى الصالحين.
المراجع
العدل الإسلاميون والحكم
حوار مع الفضلاء الديمقراطيين
حوار الماضي والمستقبل
إمامة الأمة