يقع الكثيرون في خلط كبير لاستجلاء موقف سياسي مما يحدث في أفغانستان بعد استيلاء طالبان على العاصمة كابل وفرار الرئيس السابق. وسبب الخلط هو عدم التمييز بين محددات كثيرة من شأن التداخل بينها ألا يساعد على استخلاص موقف دقيق.
أرى، والله أعلم، أنه يجب التمييز بين أكثر من محدد، ولكل واحد موقف منفصل وسيصل الباحث في النهاية إلى موقف مركب وليس هناك عيب طالما أن الحدث ما يزال في مرحلة التبلور والتفاعل ولا يمكن التنبؤ بدقة بمآلاته.
كما يجب التمييز بين التحليل والتنبؤ، فنحن نحلل الماضي والحاضر وهنا يلزم الدقة ولا يمكن التماس العذر وقبول الخطأ طالما أن المحلل يتوفر على المعطيات كاملة ويمتلك أدوات التحليل، ونحن نتنبأ في كل ما يتعلق بالمستقبل والأفضل أن يتحدث المستشرف عن سيناريوهات ويترك الاحتمال دائما مفتوحا ولا يكون حاسما.
المحلل الذي لا يتوفر على معطيات كافية ويجهل التفاصيل يسقط في العموميات والبديهيات، والمحلل الذي لا يمتلك أدوات التحليل وأهمها الدراية بالتخصص يكون مجرد ناقل يخلص إلى نهايات ونتائج غير منسجمة.
والحذر الأكبر ممن تحكمه خلفية إيديولوجية أو موقف مسبق أو حكم قيمة على الظاهرة لأن هذه ستكون حجابا يحجبه عن رؤية الواقع كما هو.
بخصوص ما حدث في أفغانستان نميز بين:
أولا: انسحاب القوات الأمريكية مهزومة: ولا يسع أي إنسان، بغض النظر عن دينه وإيديولوجيته وانتمائه، إلا الاستبشار والمباركة لأن الأمر يتعلق بأطول حرب تخوضها أمريكا وأنفقت فيها الأموال الطائلة، قدرها بايدن بتريليون دولار، وخرجت رغم ذلك مهزومة. طبعا لا يتعلق الأمر بهزيمة عسكرية واضحة ولكن طريقة الانسحاب تلقاها العالم كله بأنها هزيمة. أما سياسيا فهي هزيمة واضحة، ويكفي أن بايدن قالها أمس في خطابه واضحة حين قال: “مهمتنا لم تكن بناء دولة أو خلق ديمقراطية… مصلحتنا الوطنية الحيوية الوحيدة في أفغانستان تبقى اليوم كما كانت دائمًا، منع هجوم إرهابي على وطننا”. أمريكا قوة استعمارية واستكبارية وهزيمتها تعيد الأمل للشعوب المستضعفة بغض النظر عمن ألحق هذه الهزيمة بها سواء كان شيوعيا أو إسلاميا. وهذا يعيدني إلى نجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بنظام الشاه الذي كان دركي أمريكا في المنطقة. حينها استبشر الكل بها ورحب بالثورة لأنها كانت نموذجا لثورة شعب ضد الاستبداد المسنود بالاستكبار بغض النظر عمن يقف وراءها ومذهبه وأفكاره ومواقفه من مجموعة من القضايا التفصيلية.
إذن حق للكل أن يفرح بهذه الهزيمة التي لحقت بالاحتلال الأمريكي والتي يستنتج منها أن إرادة الشعوب لا تقهر. والجانب الإرادي في الانسحاب الأمريكي تضاعف الفائدة لأن الإدارة الأمريكية استوعبت الدرس جيدا.
ثانيا: سيطرة طالبان على أفغانستان: ينبغي الانتباه إلى أن هذه السيطرة تمت على مرأى ومسمع من السلطة القائمة وقوات الاحتلال ووسائل الإعلام. ولم يسجل خلالها أحداث عنف وإراقة دماء، بل كانت قوات طالبان تجد الترحيب من كل القبائل ومؤسسات الدولة، وطريقة السقوط السريع والمبكر لكابل خير مثال.
مهم جدا في هذا الصدد الانتباه إلى مغالطة الرئيس الهارب للأمريكان وإصراره على قتال طالبان، وهذه كانت أمنية كل الحلفاء لأنها تضعف الكل وتشغل بعضهم ببعض. وهو ما لم يتم. وكل تصريحات المسؤولين الغربيين تظهر صدمتهم من سرعة الاستسلام رغم ما أنفق من جهود وأموال لتدريب جيش اتضح أنه مفتقد لإرادة القتال.
يخشى أن يصنف كل رافض لتدخل طالبان، بهذا الرضى الشعبي الذي تابعناه، ضمن المدافعين عن النظام القائم ونعرف جميعا حجم فساده وهشاشته وارتهانه للخارج وعمالته لقوى الاحتلال. ولذلك فالتخلص منه كان ضرورة ومطلبا للشعب الأفغاني.
هناك بعض البسطاء يسمون الأمر انقلابا، ولا أدري شخصيا كيف وصلت كل حركات التحرر الوطني للحكم بعد طرد المستعمر. هل وصلت بصناديق الاقتراع؟ هل وصلت بالتفاوض؟ وفي حالة التفاوض، وهذا حدث مرات عدة، نعرف النتائج الوخيمة التي ترتب عن مفاوضاتها.
أما من يتصور الانقلاب قد تم على حكومة فهو ينسى أنها حكومة أتت على ظهر دبابة محتل. ولذلك فلا شرعية لها.
الأفغان أدرى بأمورهم، وهم فضلوا طالبان على نظام فاسد حكمهم عقودا ولم يقد البلاد إلا إلى مزيد من التخلف والدمار.
على هذا المستوى، فالموقف لا يثير مشكلة كبيرة.
ثالثا: احتمال الصفقة السياسية بين طالبان وأمريكا: هو احتمال قائم وله من الوقائع ما يسنده ولكنه ليس حقيقة مؤكدة. ومع ذلك هو ليس مرفوضا لذاته ولكن يرفض أو يقبل بالنظر لبنود الصفقة ومآلاتها وضماناتها. ولحد الساعة لم يظهر من بنودها واقعيا إلا انسحاب قوات الاحتلال مهزومة، وخطاب طمأنة من قيادة طالبان يستنتج منه أننا أمام طالبان جديدة، سياسيا على الأقل.
ويمكن في هذا الصدد تذكير الكثيرين ممن ينتقدون ما حدث في أفغانستان بما حدث في العراق حيث لا يخفى أن انسحاب الأمريكان كان بصفقة استفادت منها إيران وشيعة العراق، وها نحن نرى العراق اليوم. هل ستكون أفغانستان أسوأ من العراق؟
هناك حقيقة ثابتة وهي أن طالبان نجحت بشكل كبير في محاربة القاعدة وداعش في أفغانستان، وهذا كان سببا كافيا لفهم ما يحدث اليوم لأنه ربما كان ضمانة. أقول ربما وهناك طبعا وقائع تسند ذلك ولكنها هناك ما يفيد عكسها كذلك.
رابعا: نظام حكم طالبان وبرنامج الحكم: هنا ننتقل للحكم على المستقبل، وهو استشراف وتنبؤ ينبغي وضع خلاصاته في إطارها النسبي.
هنا نجد أنفسنا أمام ثلاثة آراء:
الرأي الأول ارتكز على ماضي طالبان وتجربتها في الحكم وتشددها وتطرفها، وهي تجربة مر عليها عقدان من الزمن، فأسقط الماضي على المستقبل غاضا الطرف عن التصريحات والوعود والقيود الدولية والاستفادة من التجربة السابقة وهذه كلها كفيلة بأن تضعنا أمام نسخة منقحة لطالبان. ولذلك كانت أحكامه قطعية برفض طالبان والحكم على مستقبلها من الآن بجريرة الماضي. وليت هؤلاء ميزوا في موقفهم بين الشق الأول أي التخلص من الاحتلال والشق الثاني وهو مستقبل البلاد في ظل حكم طالبان.
الرأي الثاني: استحضر أصحابه أخطاء الماضي ومعها بالموازاة تصريحات ووعود الحاضر وبقوا جذرين في اتخاذ موقف أبيض أو أسود ووجدوا راحتهم في المنطقة الرمادية الواسعة، فتجدهم تارة يغلبون في الموقف النهائي التخلص من الاحتلال فيثنون على طالبان وتارة يغلبون التخوف من حكمهم.
الرأي الثالث: استحضر كل ذلك بشكل متوازن وأضاف مقترحات هي بمثابة المؤشرات للحكم مبكرا على مستقبل أفغانستان، وفي الوقت ذاته شروط لتفاعله مع مستجداتها التي لم تتضح كاملة بعد. ولذلك تميز هذا الموقف بالآتي:
أ- الاستبشار ومباركة دحر قوات الاحتلال لأن من شأن هذا إعادة الأمل للشعوب المستضعفة التي لا تلمك غير سلاح الإرادة الذي ينتصر على الأسلحة المتطورة ولو بعد حين. والحين كان في أفغانستان عشرين سنة.
ب- الاعتراف بأن طالبان كانت وراء هذا الانتصار وهذه حقيقة لا يمكن أن تمحوها كل الاحتمالات والسيناريوهات الأخرى من قبيل الاتفاق القبلي أو الصفقة أو ما شابه ذلك. فالصفقات لا تبرم بين ضعيف وقوي والاتفاق لا يكون إلا مع قوي.
ت- عدم الحكم على النوايا وعدم مؤاخذة نظام الحكم المستقبلي بجريرة الماضي، بل التذكير بوجوب الحفاظ على وحدة الشعب الأفغاني والتراب الأفغاني، واحترام الحقوق والحريات، وبذل الجهد لإشراك الجميع بدون إقصاء وتهميش وتمييز عرقي أو طائفي أو ديني، والابتعاد عن العنف وتمثل الإسلام في رحمته ويسره.
وختاما: لست من مناصري طالبان، وينتابني تخوف من تبعات هذه المفاوضات، والتجارب علمتني أن النجاح في تحصيل الاستقلال لا يعني النجاح في بناء وتدبير الدولة. ولكن حصل هذا مع الثورة الإيرانية كذلك التي انحرفت كثيرا عن مسارها، وحدث هذا مع الناصرية قبلها، وحدث هذا مع تجارب ما بعد الربيع العربي.
التخوفات تبقى مشروعة ولكن المشكلة في تضخيمها حتى تحجب الجوانب المشرقة في كل انتصار شعبي ضد قوات محتلة.