توطئة
نقصد بالفكر المنهاجي فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، في اجتهاده لبسط والكشف عن منهاج النبي صلى الله عليه وسلم الذي تربى عليه الصحابة الكرام وساروا عليه في إقامة الخلافة الأولى على منهاج النبوة.
ومع استحضار إيمان وقناعة الإمام رحمه الله، ومن سار على نهجه، بعودة الخلافة الثانية، المبشر بها إجمالا في كتاب الله تعالى وتفصيلا في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه من اللازم أن يتحد المنهاج ويرتبط آخر الأمة بأولها، ليكون للاحقين ما كان للسابقين، مع اختلاف في الظروف والوسائل، لكن مع اتحاد وانجماع أول الأمة بآخرها على منهاج النبوة..
ولتقوم الحجة على الخلق أن فضله تعالى على عباده لا يرتبط بزمان، وأن صروح دينه تبنى بهندسة العصر وروح أول الأمر، قال تعالى: و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا. والمنهاج يسعى لتجديد هذه الروح في الأمة لتحيا وتقوم من جديد..
وفي كلامنا عن أساسيات التعامل مع الفكر المنهاجي، لن نتحدث عن أمور لها أهمية سابقة وأولوية على ما سنتحدث عنه، من قبيل:
مدى توفر الناظر في هذا الفكر، على مجموع طيب من شروط التربية وخصال الإيمان.
ومدى قناعته بالفكر المنهاجي عموما.
ومدى ما معه من قدرة وحكمة جبلية أو مكتسبة، عطاء ربانيا أو دراسة أو عن تجربة، لبسط الحقائق وإيصال الفكرة للناس.
لم أتحدث عن ذلك لأنها أمور أقرب إلى الذاتية ولا تظهر للجميع ويختلف الناس في الحكم عليها، والحكم الظاهر يكون على الظاهر.
كما أنه لا يلزم من توفر بعضها توفرها جميعا، فقد تجد من الناس من لو أقسم على الله لأبره، لكنه لم يعط القدرة على البلاغ الواضح المبين، وليس في ذلك من عيب، فإن الله تعالى يظهر من يشاء ويخفي من يشاء، وما فصاحة هارون بمقدمة له على موسى عليهما السلام..
وكم من ذي حكمة لا تتخطى حكمته ميدان علم بعينه، ولنا في سيدنا موسى والخضر عليهما السلام، المثال على أن كلا وعلمه، وفوق كل ذي علم عليم.
وفضل الله تعالى وأجره وعطاؤه وتجلياته على عباده لا حصر لها..
في أساسيات للتعامل مع الفكر المنهاجي
أولا: بسط الحقائق لا إعادة إنتاج الفكر
نفرق في هذه النقطة بين من يروم مناقشة قضية من قضايا المنهاج، وما أكثرها لأنها هي نفسها قضايا الإنسانية في معاشها ومعادها، فيبسطها ويقربها للناس ويحللها بما معه من علم وفهم وموهبة وذوق ومناهج…
فينتج بذلك فكرا منتسبا لا مطلقا تحت مظلة الفكر المنهاجي ولا تخرج عنه، وإلا كانت فكرا آخر ينسب لصاحبه ولا ينسب للإمام رحمه الله تعالى.
وأرض الفكر والتنظير واسعة لا يحجر في حرثها على أحد، ولكننا نتحدث عن فكر محدد غايته تعبئة طاقات الأمة في كل مظاهرها الروحية والعقلية والحركية نحو خلاص الفرد والأمة معا جميعا منتصرا بإذن الله تعالى، وهذا لا يتأتى مع تشتت الفكر وغياب وحدة التصور وإنتاج ضرات فكرية قد تحيد بالبعض عن الطريق التي رسمها الفكر المنهاجي.
وهنا حيث للعقل مجال واسع، قد تختلف الآراء رغم تبنيها للفكر نفسه، فالرأي هنا أن الفكر والتصور المنهاجي لا يبنى على الأفراد سواء تنظيرا، بتوسيع المعنى أما المنظر فهو صاحب الفكر، أو تنزيلا، وإنما مرده إلى عمل الجماعة وشورى المؤمنين إذا اختلف الفهم عن الصحبة، وما رآه المؤمنون حسنا، نسير عليه جمعا للأمر، وإن كان لنا نصيب من الصواب ولم يؤخذ به، نكله إلى الله تعالى ليحفظ المؤمنين من مغبته..
إن التعامل مع فكر يبني أمة، وينزل لواقعها لينفذ، وقد قطع مراحل في ذلك واقتحم عقبات بحمد الله تعالى، ليس كالتعامل مع أي فكر آخر يراكم القراطيس، وإن عقلية البناء الذي يرى في كل حرف يخطه لبنة في المشروع، أوسع أفقا وصدرا من عقلية الكاتب الذي لا يرى فيما يخطه إلا إنتاجه العقلي..
قلت في البداية بين هذا الذي ذكرناه حيث الهدف مناقشة قضايا منهاجية، وبين الدلالة على الله تعالى، أو على الذي يدل على الله سبحانه وتعالى، في حالة العجز عن ذلك، وهو الغالب إلا من خص بالفضل من العارفين وهم قلة القلة في الخلق، فإن الدلالة على الحق سبحانه ليست هي الدعوة للدين الحق.
قلنا إن هذه الدلالة على الله تعالى والدعوة إلى سبيله عز وجل بما يوافق المنهاج النبوي في كليته تربية وتنظيما وزحفا، مغايرة للكتابة في قضايا المنهاج، فلئن احتاجت هذه الكتابة إلى كتاب ومفكرين أو بالأحرى متفكرين، وفي ذلك ميدان واسع للدعوة، فإن الدلالة بتدرجاتها التي أشرنا إليها آنفا، أحوج ما تكون لمؤمنين ربانيين، أكثر من حاجتها لكثرة المفكرين..
ومما يذكره السيد أحمد الراشد في كتابه العوائق، ما مفاده أنهم كانوا في بداية عمل الإخوان المسلمين لا يكثر فيهم أصحاب الشواهد العليا والمفكرين، كانوا بسطاء لكن كانوا متحابين، ثم كثرت الشهادات والدرجات العلمية بعد ذلك، لكنه لمس نقصان روابط المحبة..
فإن جمع الله تعالى لأحدهم بين الأمرين، فلا بد للربانية أن تظهر على العقلانية، في ذاته أولا ثم في فكره وقوله وعمله. قال الله تعالى: ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون.
وأهل الدلالة والنورانية هم من يظهرون حقائق هذا الفكر المنهاجي، قولا وفعلا وحالا، ساطعة ظاهرة قريبة لا تعيا العقول بفهمها، وتقبل القلوب عليها، وتكون حقائق قابلة للعمل والتنفيذ، أو محببة للخلق في الخالق سبحانه.
يقول الإمام رحمه الله في كتاب الإحسان: “قد يكون هذا العارف قاصرا في مظهر ما من مظاهر الكفاءة، كأن يكون غيره أفصح منه لسانا، أو أصح منه بنية، أو أقدر على المعاناة الطويلة لمسائل الجماعة وجزئيات تنظيمها. لكن العارف الكامل معه رأس الأمر كله كما يعبر الشيخ الرفاعي رحمه الله، معه نور الكشف وروح العلم وتوفيق الله عز وجل”.
ولا شك أن السائر على الدرب له حظ من ميراث العارفين، ولا عبرة في ذلك بفصاحة اللسان مع عجمة القلب، ولا بقوة البنيان مع خواء اللب.
ثانيا: أن تعمل عمل المستشار لا المرشد
لا بد أن نقف هنا على حقيقة أننا نعيش نهاية الحكم الجبري إن شاء الله تعالى، وأنه أوان ترقب موعود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالخلافة على منهاج النبوة، والترقب غير الانتظار العاجز، وأن الانتقال بينهما لا شك أنه سيعرف مراحل، دل عليها المنهاج، ودلت عليها سنة الله في التغيير، في هذه المراحل يستكمل الجبر قدره وجمع رحاله، ويقبل فيها البشير بعد أن تفصل العير، ويحضر القميص وحلة الأمير ويرتد المبتلى بصيرا.
في هذه المراحل خاصة في بدايتها والدعوة في انفراد، قبل قيام الدولة، لا بد من جمع الجماعة والحفاظ على وحدتها القلبية والروحية والعقلية والتنظيمية والفكرية، والانجماع على الله تعالى في ظل الصحبة المباركة وميراثها، ولذلك فإن كل تعامل مع الفكر المنهاجي ينبغي أن يستحضر شموليته وإمامته، وأنها إمامة إرشاد، فلا يضع نفسه موضع المرشد، إلا منتسبا لا مطلقا، وأن أئمة هذا الشأن بعد المرشد، أئمة فتوة، بما تحمله الكلمة من حيوية ونشاط وخدمة وبث الروح المنهاجية في الناس بقوة الفتى واقتحامه وشجاعته… إلى أن يأذن الله تعالى بعودة الأئمة من الخلفاء الراشدين المهديين، وإن كنت أرى أن فكرا كهذا الفكر المنهاجي لا يمكن تجاوزه في جميع المراحل.
ومن وصف الفتوة نقتبس عمل المستشار، فإن الفتى اللبيب مستشار جيد، والمستشار هو من ملك من العلم والحكم والخبرة والأمانة ما يؤهله ليكون مرجعا يؤخذ عنه علم ما يستشار فيه، بل وحكم القضايا وحلول المشاكل والعقبات المتعلقة بمجال استشارته، ولا يشترط فيه أن يكون منتجا للمعرفة الأصلية، بل يفعل كل ذلك وهو يأخذ عن علم قام بغيره لا عن علمه، إنما يكون صلة وصل لمن لم تمكنه خبرته أو طبيعته أو ظروفه أو همته ليعمل ذلك بنفسه، وإن الفتى هو من يحسن أن يصل ما أمر الله به أن يوصل..
ولنا في قصة موسى وفتاه عليهما السلام عبرة، وكيف أن موعود دخول الأرض المقدسة لم ينجز في عهد موسى عليه السلام، وتأخر أربعين سنة حتى تحقق على يد الفتى يوشع بن نون عليه السلام، الذي أوقف الله تعالى له الشمس في كبد السماء وأطال له يومه حتى يحرز النصر، وكذلك أمر هذه الأمة المرحومة، فلو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد لأطاله الله تعالى حتى ترى النصر..
ولا ينقص من شأن الكليم عليه السلام تأخر وقوع الوعد في عهده، ولا يرفع فتاه فوق درجته أن كان النصر حليفه، فالعهود أبرمت زمن موسى وأنجزت زمن يوشع عليهما السلام، لحكمة الإعداد التي تتطلبها سنة الله في نصر عباده الصالحين.
ولنأخذ مثلا مستشارا قانونيا في زماننا هذا، فإن له مراجع وقوانين يرجع إليها، ولا يشرع من تلقاء ذاته، وإلا ضاعت المصالح وتضاربت الآراء.
ثالثا: أن تكون قرآنيا لا أكاديميا
ربما يناقش أحدهم قضية منهاجية بأسلوب ومنهجية الدراسة الأكاديمية فيبدع، لكن البلاغ المنهاجي جماله وبسط حقائقه، بما يدخل بسطا وأنسا على المتلقي، لا بد أن يكون بنفس إحساني يصنع داخل كهوف الأنفس الكئيبة فجوة ومتسعا ورحمة.
وهذا لا تتيحه المناهج الأكاديمية التي تصلح لضبط الدراسة العلمية للطلاب والكتاب بما يعصم المنهج من الخلل، كما يعصم المنطق العقل من الزلل، وهو ضبط ضيق لا يصلح لفكر موسوعي، فضلا عن فكر منهاجي شامل يروم إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فليست تسعفه منهجية أكاديمية ضيقة، قد تصلح لبعضهم ويراها منتهى علمه وتزهو بها كتابته وأقواله، ولا ضير إن سلم أمره من الغرور ورؤية النهاية في العلم والنظام. وأين هو من النظام الذي أقامه الحق سبحانه في كونه المنظور وكلامه المسطور.
ونظام الكلام المسطور هو ما نقصده، وذلك بأن يكون الناظر في الفكر المنهاجي قرآني الأسلوب، تعالى الله عز وجل أن يقارن بكلامه كلام غيره، ولكنه من باب الاستفادة من لغة القرآن الكريم، فكذلك الاستفادة من الأسلوب..
وهو أسلوب يعرض الحقائق، ويحس المستمع وكأنه في رياض فسيحة قطوفها دانية لا يجهده تناولها، ولا تشوش سمعه وذهنه لاغية، ولا لوثة من أفكار دنية، فتسري المعاني والأنوار في القلوب هنيئا مريئا بلا غصة أو حرج.. فتجد الإجمال عندما يحسن الإجمال والاستطراد عندما يكون هو عين الجمال والكمال، ويرى كل امرئ أنه المقصود بالخطاب وأن لكل سؤال بذهنه جواب، فلا يقوم عن هذه المائدة الربانية إلا وقد عثر على حاجته، إلا أن يحول بينه وبين ذلك كبر أو هوى..
أما المنهج الأكاديمي فهو أشبه بمن يسير في طريق ضيقة كثيرة العلامات قليلة الفسح، بحيث يمكن في أي لحظة أن يخرج عنها فلا يصل للقصد..
يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب الإحسان:
“أكثرت في هذا الكتاب من اقتطاف نصوص من أطايب الكلام لأمثال الشيخ عبد القادر والشيخ الرفاعي وشيخ الإسلام ابن القيم، خرقا للمنهجية الأكاديمية التي تأبى أن تسرد النصوص الطويلة. «لست من قيس ولا قيس مِنِي!». فلذلك أهدي القارئ من عيون البلاغة وأزاهر البيان…”