خلق الله تعالى الخلائق لغاية تعبدية استخلافية محضة، حيث قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56). ولتحقيق هذه الغاية العظيمة خلق سبحانه الذكر والأنثى لينشئا معا أجيالا من الخلف العابد لله، فكانت مؤسسة الأسرة الوسيلة التي تحافظ على استمرار حمل هذه الرسالة والأمانة.
وقد أولى الشرع الإسلامي الأسرة عناية واهتماما كبيرين في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، ليس فقط على مستوى المبادئ الكبرى المؤسسة والمنظمة لها، بل اهتم أيضا بأدق تفاصيل هذه العلاقة الأسرية وفصٓل فيها تفصيلا دقيقا، كما أحاطها بضوابط وشروط صارمة للمحافظة على استقرارها وكذا استمرارها، كيف لا وهي المحضن الرئيسي للدين وللتدين، الذي يحافظ على الفطرة سليمة غير مشوهة، وهي مصنع الرجال الحافظين المحافظين على الغاية التي خلق الإنس والجن من أجلها؛ عبادة الله تعالى.
ارتباط الأسرة بالعقيدة
يقول تعالى في محكم آياته يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء، 1)، ربط سبحانه تقواه بتقوى الرحم، أي حفظه ووصاله. والرحم متعلقة بعرش الرحمان، تسأله سبحانه أن يصل من يصلها ويقطع من يقطعها، كما أخبرنا بذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى مسلم (2555) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ”. وصال للأبوين وبر بهما وإحسان لهما ولكل ذوي القربى، إحسان يفضي إلى تراحم وتواد وربط لأواصر المحبة، ولابد في ذلك من تعظيم للنية، فلا يعتبرها الإنسان عادة بل عبادة، عبادة عظيمة، تستدعي الصبر والمصابرة ولين الجانب والحلم على ذوينا ما استطعنا، خضوعا لله وامتثالا لأوامره.
كثيرة هي العبادات التي نتقرب بها إلى الله عز وجل، ليبقى من أعظمها وأجلها قدرا إقامة مجتمع مسلم مؤمن رباني، ملتزم بما خلق لأجله، رافض للظلم، متشوف للعدل… فإن تحققت هذه الصفات في أفراد أسر ذاك المجتمع، فلا خوف على الدين حينئذ من أن يسلب، فالقلوب أوعية، إذا ملئت بالطاعات وصقلت بالعقيدة وغرست فيها القيم والأخلاق، ثبت الدين في الصدور ثبات الجبال أمام الرياح العاتية، ودور الأبوين في هذا أساسي لصناعة الأجيال المؤمنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
ولنا في التاريخ القديم والحديث صور مشرفة وعديدة، عن ثبات الأسر المسلمة في حفظ دينها، تثلج القلوب. والشاهد هنا، ما حصل عندما سقطت الأندلس، ومعها الخلافة الإسلامية في أوروبا، حين حاول الصليبيون القضاء على الإسلام ومعالمه، خاصة في إسبانيا والبرتغال – كما تعرفان اليوم – لكن محاولاتهم باءت بالفشل، فلم يثن الأسر المسلمة شيء على المضي قدما في تربية أبنائها على الإسلام وتحفيظهم كتاب الله تعالى والتمسك به، رغم الترهيب والقتل الممنهج، ورغم كل محاولات تنصيرهم، فاستطاعت تلك الأسر بذلك الحفاظ على دينها ما يزيد على القرنين من الزمن.
وحاول الاتحاد السوفيتي، بجميع الأشكال، القضاء على التدين بل وحتى القضاء على الاعتقاد بوجود الله تعالى، غير أنه مع سقوط تلك الدولة العظيمة والقوية عسكريا، والتي دام حكمها زهاء السبعين عاما، وانقسامها إلى دويلات صغيرة إلى جانب روسيا، ظن الكثيرون معها أن تلك المستعمرات الصغيرة، أصبحت بمرور الوقت شيوعية وملحدة، لكن ارتفاع أصوات الأذان والتكبير يعلو أرجاءها بكل عزة، هز كيان الغرب الذي اكتشف متأخرا أن جمهوريات ككازاخستان والشيشان والبوسنة والهرسك، لا تزال أمما مؤمنة، والسبب محافظة أسر هذه المناطق المسلمة في الأصل على دينها، بغرسه في قلوب الناشئة وغرس شجرة الإيمان في نفوسهم لسنوات طوال.
وعلى العكس تماما، فبعد الحرب العالميه الثانية، انقلب مفهوم الأسرة في الغرب الذي خلع آخر أثواب الحياء والعفة لديه، وثار على العادات “المتخلفة” كما اعتبرت حينها، ليصير مجتمعا “متحضرا” كما كان يظن! وبابتعاد هذه الدول عما بقي من شرائعها المشوهة أصلا، ضاعت الأسرة ومعها القيم والأخلاق.
الزواج مؤسسة ربانية
لم يكن للمرأة في الجاهلية قيمة تذكر، ولا لمؤسسة الزواج قدسية تحترم، ما عدا كونها كانت وسيلة لإنجاب الولد والتفاخر به، واستمرار للنسب لا غير.. حتى بعث الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وبتشريعات ربانية، رفعت شأن المرأة والرجل على السواء، وبينت قيمة الزواج وأهميته، وتكامل العلاقة فيه بين الرجل والمرأة، اللذين تجمعهما كلمة وميثاق غليظ، كما جاء في كتاب ربنا وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (النساء 21).
ولنجاح هذه المؤسسة الربانية وجب استحضار دورها في سلوك العبد إلى ربه باعتبارها عبادة وقربة إليه سبحانه أولا، ومصنعا للرجال الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ثانيا. ومن ثم وجب الحرص عند الإقدام على هذه الخطوة، أي الزواج، أن تتوفر شروط في الزوجين؛ منها الكفاءة الدينية والعلمية والنفسية، وكذا المادية إن أمكن، ليسهل على الطرفين التفاهم فيما بعد.
وقد خلق الله تعالى من النفس زوجها ليسكن إليها واعتبرها سبحانه آية من آياته، كخلق السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار، فقال سبحانه وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ (الروم، 21). يسكن المرء إلى ما يفتقره؛ فيسكن الرجل إلى عاطفة زوجته وحنوها، وتسكن المرأة إلى قوة الرجل بأنواعها. وباعتبار الزواج نعمة وعبادة، يبدأ كل طرف بالتقرب إلى الله تعالى بخدمة الطرف الآخر، ويخشى كل طرف أن يظلم نصفه الآخر، فيريان الله تعالى بينهما، ويتبادلان حينئذ معاني التواد والتراحم بينهما، فيكون من الرجل الحنان والاحترام، ومنها الاهتمام والتقدير. ويكون منه الصبر عليها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا” (رواه الشيخان من حديث أبي هريرة)، وتقابله هي بحسن تبعلها له، وتعلم يقينا أن ذلك يعدل عند الله درجات. ويعرف هو أن اللقمة في فم زوجته صدقة، فيبادر بالاعتناء بمأكلها ومشربها وملبسها وقبل كل ذلك يهتم بأحاسيسها، اعتناءه بصلاته وصيامه وقيامه، في المقابل تكون المرأة راعية في بيت زوجها، مسؤولة عنه. وتزيد البركة كلما زاد العمر وطالت العشرة بينهما.
خلق ربنا الرجل والمرأة مختلفين، حيث قال وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى (آل عمران، 36)، وهذا من حكمه سبحانه، فخصائص المرأة الجسمية والفكرية والنفسية والاجتماعية تؤهلها للمهمة المنوطة بها، ألا وهي الأمومة، والتي شرفها الله تعالى بتحملها رغم مشاقها ووهنها، فخصها برحمة فائقة، تجعلها ترأف بها على جنينها، تغذي جسده وهذا مشترك بين النساء عامة، لكن إذا اعتبرته عبادة، غذت أيضا روحه وأنبتته نباتا حسنا، ليغد وشجرة غناء مزهرة، وخلفا صالحا لنفسه، مصلحا في مجتمعه. وقد خص الله تعالى الزوج بخصائص تؤهله لما جبل له من مهام أهمها، قوامته ورعايته لأسرته، فالرجل إذا والمرأة متساويان في التكليف والتشريف والمسؤولية ويكمل بعضهما بعضا، المرأة بحافظيتها والرجل بقوامته.
الأسرة بين الدين والمجتمع
بقيت المجتمعات الإسلامية محظوظة بالتزامها وارتباطها بسنة الله ورسوله حتى في الزواج والطلاق، ولا زالت صلة الأرحام مبنية على الدين وليس على العادات، وهذا من كرم الله تعالى على هذه الأمة، وقد فهم أعداء الإسلام هذا الارتباط بالدين لذا سعوا وما زالوا إلى ضرب مقدساته، بضرب الأسرة بكل مكوناتها في مقتل، بتفكيكها وخلخلتها، وكذا بالتشكيك في السنة ورجالاتها، والقرآن وأحكامه، يدسون خططهم وسياساتهم الهدامة في مجتمعاتنا، تحت شعارات مختلفة للطفل والمرأة! ويسعون اليوم لتحييد ما بقي من نصوص مستمدة من شريعتنا واستبدالها بأخرى تقنن الفحش وتحميه، إضافة إلى فساد في المؤسسات، ونهج سياسات اقتصادية فاشلة تزيد من هشاشة الأسر، وترفع من نسب البطالة والطلاق والعزوف عن الزواج، زيادة على نشر التفاهة في إعلامنا حينا، وتشويه كل قدوة حينا آخر…
فالواجب علينا إذن، فهم ما يحاك لهذا الدين، والطريق هو الدفاع عن الأسرة المسلمة عامة، والمغربية خاصة دفاعا مستميتا، لتظل هذه الأسرة قلعة صامدة، حامية لكل خلق كريم.