المناسبة شـرطٌ
إحياءً لذكرى المولد النبوي الشريف، وقصد التعريف بمقام وفضل وشمائل صاحب الذكرى صلوات ربـي وسلامه عليه؛ ارتأيت الوقوف عند الشطر الثانـي من الشهادتين “وأشهد أن محـمدا رسول الله”، استنباطا للدلالات وما يترتب عليها من مقتضيات هـي شرط وجوب لصحة الإيمان.
الدلالة والمفهوم
شهِد يشهَدُ شهادة: أقَــــرّ واعترف، ضد أنكر وجحد. واصطلاحا تعني الشهادة باللسان والإقرار بالقلب والتصديق بالجوارح. لذلك رد الله تعالـى شهادة المنافقين الذين ادّعَـــوْا الإقرار برسالته صلـى الله عليه وسلم دون أن تباشـر منهم القلوب والمشاعـر: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1.
فـي مقتضيات الشهادة
وحيث إن لكل عقد التزامات، تترتب علـى الإقرار بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم مقتضيات هـي براهين تجسد حقيقة الإقرار، نروم استجلاءها فيما يلـي:
1. التوقيـر:
أوجب سبحانه توقير نبيه، ومراعاة قدره، فهو الكريم على ربه، وخير خلقه. وتأكيدا لهذا الأمر الجلل، أنزل جل ثناؤه قرآنا ينبه ويحذر من سوء عاقبة من لم يَـرْعَ حُرمة نبيه، نقرأ ذلك فـي سورة الحُجرات، أو سورة الآداب كما يسميها أهل التفسير، تخاطب المؤمنين وتنهاهم عن كل سلوك يتجرأ أو يستهين بمقام النبوة، يقول عز سلطانه: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ (1) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ (2) إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ (3).
والتوقير يتعدى الأدب الظاهر خطابا ومستوى صوتٍ إلى عدم التقدم بين يديه بأمر، كما جاء فـي تفسير ابن عباس: “أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة”. وأخرج البيهقـي فـي شعب الإيمان وغيره عن مجاهد أنه قال فـي ذلك: “لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشـيء حتـى يقضـي الله تعالـى على لسانه”؛ وإلا فالعاقبة وخيمة، حبوط عمل وبوار. فليحذر من يطلق لسانه متجرئا على مقام النبوة بالاستخفاف والاستهانة وساقط القول.
2. المحبة:
إذا سلّم المؤمن بنبوته وعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، وجبت عليه محبته لحب الله تعالى له أولا، ولكون الإيمان لا يستقيم إلا بمحبته، بل إنها أساس حلاوة الإيمان وحقيقته ثانيا، وفـي حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسـي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده” 2؛ فليتـحرَّ المؤمن حقيقة مشاعره، ولْينظرْ هل استقر حبه صلى الله عليه وسلم فـي شغاف القلب قياسا علـى وَلَـهِ الصحابة وتيههم بشخصه صلى الله عليه وسلم؛ حب توارثته أجيال هذه الأمة، يسمو بها فـي معارج الإيمان ويتشوف بها لمقامات الإحسان. استفق يا من استغشيت فكرك، وسطحت أرض إيمانك، واعتبرته صلى الله عليه وسلم ساعـي بريد أودع الإسلام في صندوق رسائلك؛ انتبه قبل فوات الأوان، واعلم أن أقرب أهل الإيمان من مقامه صلى الله عليه وسلم فـي جنة الرضوان أشدهم حبا له، وأكثرهم صلاة عليه.
محبة ببُعدين: بُعدٌ عمودي يربط بالمقام النبوي الشريف تعلقا قلبيا وولَهاً، ولله در الصديق أبـي بكر رفيق الهجرة، يقول: “كنا فـي الهجرة وأنا عطشان جدا، فجئت بمَذْقَةِ لبن فناولتها للرسول، وقلت له: اشرب يا رسول الله. يقول أبو بكر: فشرب النبي حتى ارتويت” 3.. محبة ورِقّــة وعذوبة وإيثار وتفان فـي الحب استقر فـي سويداء قلب الصديق فأكرمه الله تعالـى بهذا المقام. قال بكر المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشـيء وقر فـي صدره. وبعدٌ أفقـي يُترجَــمُ رحمة وخدمة وبذلا وتهمما بأحوال المسلمين عموما، ومن خصهم صلـى الله عليه وسلم بعناية وحدب تحديدا، اليتيم نموذجا، وفـي الحديث: “أنا وكافل اليتيم فـي الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطـى وفرج بينهما” 4.
3. الاقتداء:
لما كانت أعمال الإيمان لا تصح إلا إذا وافقت سنته صلى الله عليه وسلم، أضحـى التأسـي به واتباعه أمرا ونهيا شرط وجوب فيما يُـؤتـى من أعمال وأقوال وأفعال. يقول عز وجل فـي سورة الحشـر (7): وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وفـي الحديثين: “خذوا عنـي مناسككم” 5، و“صلوا كما رأيتمونـي أصلـي” 6.
الاقتداء طاعة. والطاعة اقتناع ورسوخ قلبـي بصحة ما يؤتى أو يترك من الأعمال، وهذا فرق فاصل بين التقليد والتأسـي؛ فالأول إلغاء لقدرات المقلد واستخفاف بذكائه وعقله، والثانـي سمو بالنفس من درك العجب وحضيض الأنانية المستعلية إلى نموذجية من اصطنعته العناية الإلهية وأهلته ليُخرج به من شاء من دياجير الجهالة والغفلة إلـى نور الهداية والإيمان. “فالسنة الشريفة – يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه فـي تحفته “المنهاج النبوي” – وحدها كفيلة أن توحد سلوكنا، وتجمعنا على نموذج واحد فـي الحركات والسكنات، فـي العبادات والأخلاق، فـي السمت وعلو الهمة. فإنه لا وصول إلى الله عز وجل إلا على طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا سبيل إلى جنة الله ورضوانه ومعرفته إلا باتباعه ظاهرا وباطنا. فذلك كله برهان عن صدقنا فـي اتباعه إذ فـاتتنا صحبته” 7. يقول سبحانه وتعالى فــي سورة الأحزاب (21): لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا. بهذا فاز من فاز من الصحابة الكرام، هذبوا أنفسهم بالاتباع الكامل لرسول الله صلـى الله عليه وسلم فـي كبير الأمور وصغيرها. وفـي الحديث: “لا يؤمن أحدكم حتـى يكون هواه تبعا لما جئت به” 8. بالاقتداء والاتباع بعد صلاح النية ينخرط المؤمن فـي سلك المفلحين، يقول جل جلاله: مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ 9. وفـي الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعنـي دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبـى” 10.
خاتمة
إقرار بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم شرط وجوب لصحة الإسلام، ومحبته مفتاح الإيمان وانخراط عملي في تربية النفس بالتأسـي والاقتداء، سموا بها عن سفاسف الأمور ومألوفات النفس وأسْـر الطباع؛ عناوين كبرى لحقيقة شهادة: “وأشهد أن محـمدا رسول الله”. فاللهم صل وسلم على نبيك ورسولك سيدنا محـمد الرحمة المهداة، ما تعاقب ليل ونهار، وعلـى الآل والأصحاب، وعلـى من سار على درب الهدى فـي الأمة برفقه ورحمته مسترشدا بسنته مستمسكا بهديه إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.
[2] أخرجه مسلم حديث (44)، والبخاري (15)، والنسائي (5029)، وابن ماجه (67).
[3] رواه البخاري
[4] أخرجه الترمذي (1918)، والبخاري (6005).
[5] رَوَاهُ أَحْمَدُ ومُسْلِمٌ والنسائي.
[6] رواه البخاري.
[7] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستنبول، ص 162.
[8] حديثٌ صحيح، روي في (كتاب الـحجة) بإسنادٍ صحيحٍ.
[9] النساء، 80.
[10] رواه البخاري.