أصلّى الغُلام؟.. ليس مجرد سؤال يعكس جانباً من هديه صلى الله عليه وسلم في حرصه وتتبُّعه لأهله وذويه، بل هو مشروعٌ يتعلق بمصير الأسرة المسلمة واستقرارها. لكن العديد من هذه لم يعتَدْ رُبّانُها على طرحه شأْن باقي الأسئلة التي تلامس الجانبَ الماديَّ من تربية الأبناء ومتابعتهم، من قَبيل: هل أكل الغلام؟ هل نام؟ هل قام؟ هل عاد؟ هل راجع دروسه؟…
خطورةُ السؤال ومآلاتُه وآثاره تكمُنُ في الوعيد الذي يترتَّب عن تغْييبه أو تذْييلِه في سُلَّم الأوْلوِيات لديْنا. ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره، ومسلم في صحيحه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحذِّراً: “كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّع من يقوت” وفي رواية: من يعول.. وهل هناك أشدُّ من تضييع المرْء لدينه ودين أهله وولده؟
سياق هذا السؤال جاء في إطار مشروع تربوي أثّثه أحد الحزاورة 1 على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين خلَّفوا لنا إرثاً تربوياً زاخراً أخذ به مِن بعدهم علماء عظام كابن مسكويه وابن سحنون وابن جماعة والغزالي وغيرهم من رُواد التربية وخُبرائها.
فهذا حبر الأمة وتُرجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو في العاشرة من عمره يصوِّر لنا مشهداً رائعاً في إحدى زياراته لبيت خالته ميمونة رضي الله عنها زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “بِتُّ عند خالتي ميمونة بنت الحارث وقُلت: لأنظُرنَّ إلى صلاة رسول الله، وقلت لها: إذا قام النبي فأيقظيني…” الحديث.
فلله درُّهُ من غُلام حَزْوَرٍ! يُؤثر وقت اللعب والسمر مع أقرانه فيبيت عند خالته ويوثِّق لنا هذا الإرثَ النورانيَّ الخالد تأهيلاً وتدريباً على نهج رسولنا الكريم في متابعته اليومية للأهل والولد بالسؤال عن أداء الفرض والنَّفل.. فما بالُ الواحد منّا اليومَ يخجل أو يعجز عن تذكير أبنائه ودعوتهم لأداء الصلاة في وقتها وفي المسجد، تاركاً إياهم أمام شاشات الهواتف وباقي الأجهزة الإلكترونية الفتّاكة؟ بل كيف يهنأُ ولا يدجر أو يقلق وقد خلَّف ابنه البالغ والرّاشد نائماً، ثم يتوجه لأداء صلاة الصبح، دون أن يجلس إليه يوما ويبحثا عن منبع الخلل؟ أتقصيراً منه ومن شريكته أُمِّ أولاده أم إهمالاً منهم جميعاً وانسحاباً من المسؤولية حتى ساد الأسرةَ التطبيعُ مع زمن العادة واللّامبالاة ومع سياسة الهروب إلى الأمام رغم الطوفان الجارف الذي أضحى يهدِّد مستقبلنا ومستقبل فلذات أكبادنا.
في رواية أخرى للحديث ورد قولُه رضي الله عنه: “بِتُّ في بَيْتِ خَالَتي مَيْمُونَةَ بنْتِ الحَارِثِ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِنْدَهَا في لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إلى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الغُلَيِّمُ أوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عن يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عن يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، حتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ” 2.
الحديث حابل بالفوائد والقواعد التربوية المتعلقة بالصلاة وغيرها. نقتصر هنا على ذكر إحداها، ألا وهي التربية بالقدوة. فَفي قوله رضي الله عنه: “فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربعَ ركعاتٍ ثم نام..”؛ تبرزُ آثار وأبعاد هذه الوسيلة وكيف تنسجُ بُنيانها في الأطفال المولَعين جبلِّيّاً بتقليد آبائهم وأُمهاتهم، خاصّةً حين يسارع هؤلاء إلى ترك أشغالهم والتوجه إلى المسجد كلما أُذِّن إلى الصلاة، إلى حين اصطحابهم إلى بيت الله كلما سنحتِ الفرصةُ تسليةً وتزكيةً لهم.
الدَّعامةُ نفسُها تؤسس لهَديه عليه الصلاة والسلام في تعامله مع أهله، وهو ما ورد في موضع آخرَ من حديث الغلام حيث قال: “فصلى أربع ركعات، ثم تحدّث مع أهله ساعةً..” سعياً من جنابه الكريم إلى إيصال الخلق الحسن عن طريق السلوك الإيجابي العمليّ. فسعيُهُ الحثيث وجهاده الدّؤوب لتبليغ دعوة الله للعالمين لم يمنعه عليه الصلاة والسلام من تخصيص وقتٍ كافٍ لأهله وإشراكهم أطرافَ الحديث، والغلام يُنصت ويستوعب ويعقِل. لذا وجب على كل مربٍّ أن يراقب سلوكه وأقواله وأفعاله التي يقوم بها أمام الأطفال والبالغين، وأن يحرص على تأهيل وتهذيب الوسط الذي يتربون فيه. فقد قيل: من أجل تطوير أولادِنا علينا تطويرُ زواجنا؛ فاستقرار الأسرة ونجاحها يُعدّانِ الشرط الرَّئيس لتوفير بيئة سليمة ومحضن إيمانيّ تُثمر فيه التربية وتنشأُ وسطه الذُّرية مستويةً على دعائم الإيمان والمنهاج النبويٍّ الرّائد، ومتى تقرَّر ذلك كلُّه وساد، عمَّ معه وذاع سؤال الحبيب: أصلى الغلام؟ وغيره من الأسئلة المُنشئة لجيل المجتمع المنشودِ، مجتمعِ الأخوة والرَّحمة والعدل. “في مجتمع العمران الأخوي المنشود، المسبوق بتربية وتزكية وتعليم، يستنبط المسلمون دستورَ سلوكهم فيما بينهم وعهودَ تعاملهم مع الخَلقِ الدوليِّ، والخَلق الطبيعيِّ، والبيئة المشتركة، من القرآن كل القرآن، ومن السُّنة كل السُّنة” 3.