أضواء على تصريح بلفور

Cover Image for أضواء على تصريح بلفور
نشر بتاريخ

مقدمة

تصريح بلفور هو الإسم الشائع المطلق على الرسالة التي أرسلها “جيمس بلفور” وزير الخارجية البريطاني بتاريخ 2 نونبر 1917 إلى اللورد “ليونيل روتشيلد ” زعيم المجتمع البريطاني اليهودي يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، صدر هذا الوعد قبل الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد كان عدد اليهود بها لا يتجاوز الخمسة بالمائة وقد وصف بوعد (من لايملك لمن لا يستحق).

تصريح بلفور لم يأت صدفة أو نتيجة عاطفة ولكنه يعتبر نتاج مخططات ومشاورات طويلة امتدت لعشرات السنين قبل الإعلان عنه.

وهو أيضا ثمرة تلاقي الأطماع الصليبية الاستعمارية واليهودية الصهيونية .

نص التصريح

وزارة الخارجية البريطانية

2 نونبر 1917م

عزيزي اللوردروتشيلد

يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية ، وقد عرض على الوزارة وأقرته : “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوما بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غيراليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق المدنية والدينية التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى “.

وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علما بهذا التصريح آرثر بلفور .

قراءة في النص

صيغة الوعد واضحة فهناك هيئة حكومية تؤكد نظرتها العاطفية إلى اليهود من أجل إنشاء وطن قومي لهم، والهدف هنا ليس خيريا ولكنه سياسي استعماري، إضافة إلى أن هذه الحكومة لن تكتفي بالوعد ولكنها ستبذل كل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف . إضافة إلى ذلك نجد جملة مفادها أن الوعد لن يضر بمصالح الجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا بمصالح اليهود غير الراغبين في المساهمة في المشروع الصهيوني، والحديث هنا عام يتسم بالغموض .

المطالبون بنص التصريح

الحركة الصهيونية ومؤسسها المجري “حاييم وايزمان ” الذي هاجر لبريطانيا سنة 1904م وكان له نفوذ واتصالات مع شخصيات منها بلفور، و”لويد جورج” رئيس الوزراء لدعمهم للأطماع الصهيونية، حيث توالت الاتصالات لتنزيل التصريح، وأعدت عدة مشاريع للتصريح .وقد طلب” بلفور” من “وايزمان “نص التصريح الذي ترغب به الحركة الصهيونية  لاعتماده من طرف الحكومة البريطانية وقدم ست نسخ تؤكد على قبول إعادة فلسطين وطنا قوميا لليهود واستخدام بريطانيا كل الجهد لتطبيق ذلك .

أهمية فلسطين

كانت الحرب العالمية الأولى عنوانا بارزا لإظهار الاهتمام والأهمية الكبرى لفلسطين، وقبلها كان شق قناة السويس سنة 1769م واحتلال بريطانيا لمصر سنة 1882م، وقد لعبت هذه الحرب أدوارا مهمة للمصالح الاستعمارية، حيث كان من ضمن أهداف بريطانيا فيها تجزئة بلاد الشام، ثم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين كدولة عازلة لفصل الشام الفرنسية عن فلسطين، إضافة إلى أنها ستغطي فراغ الدولة العثمانية، وستكون بمثابة خط دفاع متقدم لبريطانيا عن مصر وقناة السويس على اعتبار أن فلسطين تقع في قلب الإمبراطورية البريطانية.

جاءت الخطوات متتالية لتطبيق التصريح بين قادة الحركة والساسة البريطانيين 1 وتحمست بريطانيا لإطلاق التصريح لإنشاء وطن قومي لليهود بمجيء “لويد جورج “واستمر التشجيع الرسمي ما سرع من الإعلان عنه فوافق عليه مجلس الحرب البريطاني ليخرج “مايك سايس “مهنئا “وايزمان “قائلا : “لقد رزقت بولد “2 .

إذن التلاقي بين الأطماع والأهداف لكل من الاستعماريين الصليبيين واليهود الصهاينة أخرج هذا التصريح الذي كان نكبة على فلسطين وأهلها والوطن الإسلامي والعربي، وكان إصداره تعبيرا عن ضمير بريطانيا تجاه اليهود .

الأسباب والدوافع

تعددت القراءات في أسباب ودوافع  وعد “بلفور” ، فبلفور فسره بأنه بدافع إنساني لأن اليهود تعرضوا للطغيان في أوروبا والوعد هو تكفير عن ذلك، كما أن هناك من رأى أن بريطانيا أصدرت الوعد اعترافا منها بخدمات “حاييم وايزمان” الباحث في اكتشاف ’’الاسيتون “الاصطناعي في أدق مراحل الحرب الكونية الأولى كمكافأة على تعاونه .ويرفض جل الباحثين هذه القراءة في الأسباب ؛لأن التاريخ يؤكد أن “بلفور” لم يكن يفكر في مأساة اليهود الإنسانية بل على العكس فقد سجل عليه رفضه التدخل لدى الروس من أجل منعهم من اضطهاد اليهود، إضافة إلى أن مساهمة اليهود في دعم بريطانيا في الحرب كان محدودا .وقد أكد “لويد جورج “الذي أصدرت حكومته الوعد فقد برر القرار في كتابه “الحقيقة حول معاهدات الصلح ” أن الدافع الأهم هو سباق مع ألمانيا من أجل كسب اليهود .

والحقيقة أن تأييد بريطانيا للصهيونية هو أكثر من مجرد شعور إنساني، فهي  بإصدارها للوعد جعلت من الصهيونية خط مواجهة متقدم لحركة التحرر العربي التي بدأت تتبلور وتتطور في سوريا والعراق وغيرها فالمصلحة الإمبريالية البريطانية كانت المسيطرة في إصدار الوعد ليست الآنية ولكن البعيدة المدى، فقد أعقبت الوعد مباشرة بداية الإستعمار الفعلي لفلسطين مابين عامي 1917 و1918 م . والوعد كان حاضرا في مؤتمر”سانريمو” سنة 1920 والذي منح فيه لبريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وكان حاضرا في” عصبة الأمم” التي صادقت على صك إقرار الانتداب  سنة1922 ، كما كان الوعد حاضرا في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أمميا .إضافة لكل ما سبق نضيف العامل الديني الذي يظهر من خلال دعم بريطانيا البروتستانتية لليهود، والعداء المتواصل للإسلام في تجدد ملحوظ للحروب الصليبية ، إضافة إلى أهمية الموقع الاستراتيجي لفلسطين ، وأيضا ضمانا لمصالح بريطانيا في المنطقة وتمزيق الجانب العربي الأسيوي عن الافريقي، وجعل فلسطين منطقة نفوذ وخط دفاع أول وضمان الاتصال البري للشرق والسيطرة على خليج العقبة والبحر الأحمر. دون أن ننسى أن هناك عاملا داخليا مهما وهو حل مشكل هجرة اليهود القادمين من شرق أوروبا …

نقل وعد بلفور من النطاق البريطاني إلى النطاق العالمي

كان الوعد خطوة مفصلية للحركة الصهيونية وإقامة الدولة العازلة، وقد استطاعت بريطانيا وبخطوات مدروسة نقله من المحلي إلى العالمي ليعتمد من قبل عصبة الأمم المتحدة .ونتساءل عن الدور العربي وماهيته ؟

بعد الحرب العالمية الأولى حاولت الصهيونية تطبيق نص بلفور على أرض الواقع ، فقد طالب “وايزمان ” من بريطانيا إرسال بعثة من قبلها إلى فلسطين ،كان عدد افرادها ثمانية وبدأت عملها بالتخطيط للاستيطان ،أول خطوة كانت بالاستعطاف فاجتمعت بالقيادات العربية في فلسطين، بتنسيق مع حاكم القدس الجنرال “ستورز “وتحدثوا عن تطلعات الصهيونية وأنها لا تشكل خطرا عليهم لكن الأهالي انسحبوا من الاجتماع ، وحاولوا في يافا طمأنة الفلسطينيين لكنهم فشلوا في ذلك . حين ذاك سيبحث الصهاينة عن زعامات عربية أخرى تمثلت في “الشريف حسين ” وابنه “فيصل” الذين دعما الأطماع الصهيونية، لقدرة الصهاينة على إقناعهم بأن أماني العرب مرتبطة بأماني الصهيونية من أجل تحقيق أحلام العرب القومية. فأظهر ” الشريف حسين ” تواطِؤا وجهلا .لاعتقاده أنها فرصة لإقامة امبراطورية عربية باعتبار ما فهمه من أبعاد وعد بلفور، ووقف موقفا معاديا لموقف السوريين .ذهب الأمير “فيصل ” إلى نفس موقف أبيه فكان يقينه بأن عدو العرب الأول هم الأتراك فأغرق في الثقة العمياء حتى وقع على عدة اتفاقيات منها اتفاقية “فيصل وايزمان “.أحسن وصف يمكن أن نصف به هؤلاء الزعماء هو أنهم كانوا يعانون جهلا ونكبة معرفية 3.

بعد توالي المؤتمرات التي كان على رأس جدول أعمالها تصريح بلفور جنت الحركة الصهيونية مكاسب كبيرة أدت إلى تسريع وثيرة إنشاء الوطن المزعوم ؛كمؤتمر الصلح الذي ناقش مقترحات مدروسة وضعت أمام المؤتمرين في غياب تصور واضح من العرب ؛ توصيات المؤتمر جاءت مناسبة للحركة الصهيونية وصادقت عاى عصبة الأمم المتحدة ، ووضح صك الانتداب كل ما يضمن تنفيذ تصريح بلفور .

لقي وعد “بلفور”  تأييدا كبيرا ورغبة في تغيير اليد العربية والإسلامية باليد اليهودية ، حتى جاز القول أنه وعد غربي وليس بريطاني فحسب، فالكونغرس الأمريكي أصدر قرارا عام 1922م أيد فيه الوعد حتى تطور إلى أن أصبح رعاية وتعهدا استراتيجيا أمريكيا برعاية الكيان الصهيوني وحمايته .

خاتمة

مر اليوم قرن من الزمان على هذا الوعد الملغوم والمشؤوم، وما كان في السابق وطنا قوميا لليهود لا يتعارض وجوده مع حقوق المقيمين على الأرض من غير اليهود، أصبح يقصي ويبيد كل ما يعبر عن هذا الغير من مقدسات وتشريد الملايين وقتل …ومع توالي الأعوام سيبقى هذا الوعد وهذا الكيان وصمة عار على جبين كل من تواطأ أو خان بجهل أو بثقة أو بحسن نية الذين منحوا فرصة تاريخية استغلت بشكل جيد حيث “التقى الاضطهاد العنصري بالفرصة التاريخية لتسكت السياسة البريطانية الطموح اليهودي بإيوائه في فلسطين “4.  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1 محاضرات ذ طارق الجعبري  

2  محاضرات ذ طارق الجعبري

3 محاضرات ذ طارق الجعبري

4 الاسلام والحداثة ص 124 ذ عبد السلام ياس