في زماننا هذا يلعب الإعلام دورا كبيرا في الرقي بالأمم، حيث توصف وسائل الإعلام دائما بأنها السلطة الرابعة، كونها المرجع الأساسي في إيضاح الحقائق، وتسليط الضوء على مواطن الخلل، ومكامن الخطأ، وهي مرآة تعكس للمجتمع أحواله وتصف له طريق العلاج، حيث يعتبر الإعلام أحد أهم وأبرز وسائل العولمة الحديثة للسيطرة على الشعوب والأمم التي تعاني تخلفا فكريا. فالإعلام يبث مجموعة من الوقائع والأحداث بشتى أنواعه. لكن أريد اليوم أن أسلط الضوء على منهجية الإعلام الفاسد في السيطرة على عقول الشباب وتخديرها وتزييف الحقائق والسير نحو مسار واحد وهو ما يخدم السلطة القائمة. ومن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن إعلامنا الرسمي والذي تترأسه (2M) هذه الإذاعة التي تربي جيلا مهووسا بالموسيقى والأفلام المدبلجة التي باتت الأسر المغربية مشبعة بثقافتها، والأسوأ من ذلك ألا حديث بين النساء إلا عن أسماء أبطال هذه المسلسلات التي تسوق لنا كل ما هو ماجن وعار وغير أخلاقي، والإكثار من الحفلات الساهرة والأعمال الكوميدية التي يراها المشاهد المغربي تافهة وتستخف بذكائه.
فانسلخ مجتمعنا من قيمه وأخلاقياته إلى التقليد الأعمى لكل ما هو غربي مما يجعل عقولنا تستهلك أكثر مما تنتج، والعقل الذي لا ينتج يدخل حالة ركود وجمود، فهي إذن حرب ضروس تمارس من أجل تخدير العقول وجعلها تصدق كل ما ترى وتسمع, وبذلك يغيب رد فعلنا تجاه أحداث مهمة، مما تعيشه بلادنا من أزمات وفساد على مستوى كل القطاعات.
فما هو تصورنا للإعلام؟ وما مدى تأثيره على تفكيرنا وعقولنا؟
هذا ما سنقف معه في الختام من خلال عرض دراسة سبق أن نشرها الكاتب الأمريكي المشهور – نعوم تشومسكي- أوضح فيها أن وسائل الإعلام تستعمل عدة طرق للسيطرة على الشعوب، واختزلها في عشر استراتيجيّات أساسيّة
أولاً- إستراتيجيّة الإلهاء
هذه الإستراتيجيّة عنصر أساسي في التحكّم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرّأي العام عن المشاكل الهامّة والتغييرات التي تقرّرها النّخب السياسية والاقتصاديّة، ويتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. إستراتيجيّة الإلهاء ضروريّة أيضا لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضروريّة في ميادين مثل العلوم، الاقتصاد، علم النفس، بيولوجيا الأعصاب وعلم الحواسيب. حافظ على تشتّت اهتمامات العامة، بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة، اجعل الشعب منشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للضيعة مع بقيّة الحيوانات) 1 .
ثانياً- ابتكار المشاكل
ثم تقديم الحلول: هذه الطريقة تسمّى أيضا المشكل – ردّة الفعل – الحل). في الأول نبتكر مشكلا أو “موقفا” متوقــعا لنثير ردّة فعل معيّنة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها. مثلا: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حرّيته، أو: ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبّل التراجع على مستوى الحقوق الاجتماعية وتردّي الخدمات العمومية كشرّ لا بدّ منه.
ثالثاً- إستراتيجية التدرّج
لكي يتم قبول إجراء غير مقبول، يكفي أن يتمّ تطبيقه بصفة تدريجيّة، مثل أطياف اللون الواحد (من الفاتح إلى الغامق)، على فترة تدوم 10 سنوات. وقد تم اعتماد هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو – اقتصاديّة الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم، وهي تغييرات كانت ستؤدّي إلى ثورة لو تمّ تطبيقها دفعة واحدة.
رابعاً- إستراتيجية المؤجّـل
وهي طريقة أخرى يتم الالتجاء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة القبول وحتّى يتمّ تقديمها كدواء “مؤلم ولكنّه ضروري”، ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل. قبول تضحية مستقبلية يكون دائما أسهل من قبول تضحية حينيّة. أوّلا لأن المجهود لن يتم بذله في الحين، وثانيا لأن الشعب له دائما ميل لأن يأمل بسذاجة أن “كل شيء سيكون أفضل في الغد”، وأنّه سيكون بإمكانه تفادي التّضحية المطلوبة في المستقبل. وأخيرا، يترك كلّ هذا الوقت للشعب حتى يتعوّد على فكرة التغيير ويقبلها باستسلام عندما يحين أوانها.
خامساً- مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار
تستعمل غالبية الإعلانات الموجّهة لعامّة الشعب خطابا وحججا وشخصيات ونبرة ذات طابع طفولي، وكثيرا ما تقترب من مستوى التخلّف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوّق ذهنيّا. كلّما حاولنا مغالطة المشاهد، كلما زاد اعتمادنا على تلك النبرة. لماذا؟ إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعل مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة الطفل ذي الإثني عشر عاما) 2 .
سادساً- استثارة العاطفة بدل الفكر
استثارة العاطفة هي تقنية كلاسيكية تُستعمل لتعطيل التّحليل المنطقي، وبالتالي الحسّ النقدي للأشخاص. كما أنّ استعمال المفردات العاطفيّة يسمح بالمرور للاّوعي حتّى يتمّ زرعه بأفكار، رغبات، مخاوف، نزعات، أو سلوكيّات.
سابعاً- إبقاء الشّعب في حالة جهل وحماقة
العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطّرق المستعملة للتحكّم به واستعباده. يجب أن تكون نوعيّة التّعليم المقدّم للطبقات السّفلى هي النوعيّة الأفقر، بطريقة تبقى إثرها الهوّة المعرفيّة التي تعزل الطّبقات السّفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطّبقات السّفلى) 3 .
ثامناً- تشجيع الشّعب على استحسان الرّداءة
تشجيع الشّعب على أن يجد أنّه من “الرّائع” أن يكون غبيّا، همجيّا وجاهلا.
تاسعاً- تعويض التمرّد بالإحساس بالذنب
جعل الفرد يظنّ أنّه المسؤول الوحيد عن تعاسته، وأن سبب مسؤوليّته تلك هو نقص في ذكائه وقدراته أو مجهوداته. وهكذا، عوض أن يثور على النّظام الاقتصادي، يقوم بامتهان نفسه ويحس بالذنب، وهو ما يولّد دولة اكتئابيّة يكون أحد آثارها الانغلاق وتعطيل التحرّك. ودون تحرّك لا وجود للثورة!
عاشراً وأخيراً- معرفة الأفراد أكثر ممّا يعرفون أنفسهم
خلال الخمسين سنة الماضية، حفرت التطوّرات العلميّة المذهلة هوّة لا تزال تتّسع بين المعارف العامّة وتلك التي تحتكرها وتستعملها النّخب الحاكمة. فبفضل علوم الأحياء، بيولوجيا الأعصاب وعلم النّفس التّطبيقي، توصّل “النّظام” إلى معرفة متقدّمة للكائن البشري، على الصّعيدين الفيزيائي والنّفسي. أصبح هذا “النّظام” قادرا على معرفة الفرد المتوسّط أكثر ممّا يعرف نفسه، وهذا يعني أنّ النظام – في أغلب الحالات – يملك سلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم.