أقوال الإمام وتوجيهاته ووصاياه في الرباط التربوي

Cover Image for أقوال الإمام وتوجيهاته ووصاياه في الرباط التربوي
نشر بتاريخ

من كتاب “الرباط.. أفضل وسيلة لأكمل غاية” للأستاذ منير ركراكي، الطبعة الأولى 1442هـ/2021م، صص 22-27.

لم يكن اهتمام الجماعة بالرباط والعناية به كأداة للتربية تنمية وتقويما، والتعليم تلقينا وتكوينا، والتعلم تأهيلا وتبريزا اهتماما من تلقاء نفسها لولا أن الإمام المجدد كان حادي ركب الرباط، والمحفز إليه، والمتابع له ولنتائجه وآثاره، وله في هذه الأبواب مفاتيح ومصابيح 1.

كان مما قاله رحمه الله عن الرباط:

أولا: هو مأدبة القرآن ومائدة الإحسان.

ثانيا: هو مما يتحقق به صبر النفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.

ثالثا: هو حبس للنفس عما تشتهي، وفيه وبه حملها على ما تكره.

رابعا: هو صاروخ ارتقاء نحو قمم الاصطفاء.

خامسا: هو الحصن الحصين من العذاب والفتنة مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (سورة النور، 61)، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (سورة الأنفال، 23) فلا فتنة ولا عذاب، والمرابط مع إخوته عاكف على الائتمار بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء بنهي الله ونهي رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مخالفة عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو كالنحلة لا يأكل إلا طيبا، ولا يُخرج إلا طيبا. وهو كالنخلة أصل ثابت في العبادة، وفرع إلى السماء في المعاملة، وأكل دائم كل حين بإذن الله من الأعمال الصالحة. ولا عذاب والمؤمنون إنما رابطوا لإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإكثار من الصلاة والسلام عليه، فهو فيهم؛ كيف لا وهم كثيرا ما يرونه في مرائيهم، ومن لم ير صورته، أو يزر مضجعه وقبته ومسجده وطيبته فإنه يسكن قلبَه حبُّه والشوق إلى لقائه، ويتمنى أن يوشح صدره بوسام أخوته، وأن يحظى من الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم بشوق، ومن الله الكريم بأجر مضاعف ومقام مشرف. قال صلى الله عليه وسلم: “وددنا أن رأينا إخواننا. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا بل أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يود أحدهم لو رآني بماله وأهله” 2 وقال صلى الله عليه وسلم لصحابته رضوان الله عليهم: “فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم” 3 وفي رواية: “قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم”. وأورد مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: “من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله” 4.

وكيف يعذب المرابطين ربُّهم وهم إنما كان رباطهم للاستغفار والتوبة والندم على ما اجترحوا من آثام، وارتكبوا من خطايا وذنوب، والإقلاع عن ذلك من أجل الإقبال على الله بالكلية، وكمال مضاء العزم وسمو الهمة والنية.

سادسا: الرباط أن تضع قدميك جميعا في الآخرة لتنسى -إلى حين- ما يربطك بأهلك وأهلها. حتى إذا عدت إليهم قلت: إني آنستُ من الرباط نورا لعلي آتيكم منه بقبس، وإني وجدت مع المرابطين هدى لعلي أطيبكم منه بنَفَس.

سابعا: الرباط ليس خلوة منفرد، ذاك رباط غيرنا في زواياهم الانعزالية، بارك الله لهم فيه وقضى لهم به حاجاتهم؛ أذاقهم حلاوته، وأبقى فيهم قوته، وأذهب عنهم أذاه. وإنما رباطنا خلوة في الجلوة، أي رباط مؤمن مع مؤمنين، صبرا للنفس معهم إرادة لوجه الله، ونشدانا للإحسان، والتماسا للأرزاق المعنوية التي يغدقها الله على المرابطين في المكان والزمان تحقيقا لدستور المحبة، وتعميقا لمعاني الصحبة، وذكرا ومذاكرة وفتحا ربانيا، وتعاونا على البر والتقوى والأعمال الصالحة في اليوم والليلة، وتنافسا في تحقيق المقاصد الشريفة النبيلة، والآثار الجميلة، والأسرار الجليلة، والأنوار العزيزة، والأجور الجزيلة.

ثامنا: الرباط في غياب الجهاد جهاد، كذلك كان رباط أسلافنا العابدين المجاهدين حماة الثغور لئلا يدهمها العدو الدخيل، ويغزوها على حين غفلة من أهلها، وثغور المسلمين كثيرة؛ ثغور أرضية عمرانية، وثغور مقدرات طبيعية، وثغور موارد بشرية، وثغور مقدسات دينية وآثار تاريخية، وثغور أعراف وقيم اجتماعية راقية، وثغور ملكات وقدرات وطاقات إبداعية إشعاعية… كل ثغر عليه مرابطون حراس، ذائدون منافحون ومجاهدون ومجتهدون.

لهذا لم يكن، ولن يكون رباطنا رباط قعود دسم، وهروب من مخالطة الناس والصبر على أذاهم وكنس قاذورات واقعهم وإن أصابنا من غباره ونتنه، وإنما هو كما يُحيلنا لسان العرب على معنى جليل من المعاني التي توحي بها كلمة رباط الخيل القرآنية؛ و“الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة» 5. «رباط الخيل» يعني خمسا من الجياد فأكثر، يتم حبسهم في مكان آمن، ليحسن علفهم إعدادا واستعدادا للسباق أو الجهاد. والمؤمنون يرابطون -وهم جيدون- لأنهم متطوعون منتقون، حظوا من التنظيم بتزكية وترخيص، بأعداد تتجاوز العشرين نفرا على أقل تقدير، وقد حبسوا أنفسهم في مكان آمن، وهل بقي آمنا تحت وطأة الاستبداد والفساد بيت؟! حتى بيوت الله قد غُلّقت أبوابها، ومُنع أن يُذكر فيها اسم الله، بل أصبحت ضرارا مفرغة من محتواها العمراني الأخوي. ونُصب محرابها لصلاة بلا وجدان، ومنبرها للتخدير والتغرير والتسبيح بحمد الظلم والطغيان.

لو خُيرنا لما اخترنا على بيت الله بيت أي إنسان، لكن بيوت المؤمنين والمؤمنات تنوب عن بيوت الله في هذا الزمان لتكون رباط خير وأخيار، ليس لنا خيار إلى أن يُطلق سراح المسجد من زنازين أصحاب القرار، ويضطلع بما جعل له من أدوار ليتم إطعامهم وإرواؤهم من مآدب الرحمن، وموائد القرآن والإحسان إعدادا لهم، واستعدادا للسباق في مضمار الحسنات والصالحات والخيرات، أو الجهاد ضمن أبوابه المشروعة المشرعة التي أحصاها الإمام المجدد رحمه الله في خصلة الجهاد من المنهاج النبوي في أحد عشر بابا هي: جهاد النفس، جهاد المال، جهاد التعليم، جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جهاد الكلمة والحجة، جهاد التعبئة والبناء، الجهاد السياسي، جهاد التنفيذ، جهاد الكفر، جهاد النموذج الناجح، جهاد التوحيد.

وكم هو جاهل -جهلا بسيطا أو مركبا- من لا يعلم من أبواب الجهاد إلا بابا واحدا لا أكثر، ويضيق واسعا من أبوابه وأسبابه وأفضاله التي كلها رفق ورحمة. وهل كان نبينا إلا رحمة مهداة، وهل كان قرآنه إلا رحمة مسداة، وهل كانت رسالتنا إلا رحمة دعاة هداة لا حرب غزاة، ولا حكم قضاة، ولا عنف قساة جفاة.

يقول الإمام المجدد عليه أوسع الرحمات من نفيس كلامه الذي شافهنا به في إحدى الزيارات: “الرباط في غياب الجهاد جهاد، ومن دُعي إلى رباط من الرباطات وهو عليه قادر، ولم يحُل بينه وبينه عذر قاهر، ولم يحضره، فليبكِ على نفسه”.

تاسعا: الرباط حمام تركي ساخن.

يوحي هذا التشبيه بما يتم في الحمام التركي الساخن 6. من عمليات تجردية تدرجية متلازمة متلاحمة، متلائمة متناغمة:

1- التجرد من الملابس المنتِنة.

2- التدرج في الدخول من البارد إلى الدافئ إلى الساخن.

3- الاغتسال مما علق بالجسم من عرق وأوساخ.

4- ستر عورتك، وعدم الاشتغال بعورات الناس وأوساخهم، فما فيك يكفيك، وينسيك ما في غيرك وعنه يُسليك.

5- وكما أنت محتاج إلى من يُعينك في حمامك على الترويض والغسل، ويمدك بما تفتقدُ مما هو موجود عند غيرك، أو جيد عنده، فغيرك محتاج إلى ما عندك من موجود يفتقده، أو جيد لا يجده. ولا أحد في الحمام يستغني عن سواه، ولو أن يمد يده إلى ما لا يستطيع غيره أن يمد إليه يده.

6- أن تخرج من الحمام كما دخلت بتدرج أيضا من الساخن إلى الدافئ إلى البارد.

7- وأن تجلس في بهوه لأخذ نفس من الراحة، ووضع قدميك في الماء البارد لتعلم ما ينتظرك من برود الواقع خارج الحمام، وحتى لا تعصف بك الربح خارج بنيته.

8- أن تلبس لباسا نظيفا أو جديدا؛ إذ لا معنى أن ترجع إلى لباسك الذي تجردت منه حتى تطهره وتطيبه وتنقيه مما علق به.

9- أن تصلي ركعتي شكر وحمد على ما تنقيت منه، وما ترقيت فيه، وتؤدي ثمن حمامك شكرا للناس على ما أمدوك به، وساعدوك عليه، كلّ حسب موقعه ومستطاعه، و«لا يشكر الله من لا يشكر الناس» 7. ومن شكر الله المستمطر للزيادة، المستدر للعود والإعادة، أن تدعو الآخرين للذهاب إلى الحمام ليشهدوا ما شهدته من منافع، وليتخلصوا من كل ما هو شائن، عن التوبة والطهارة مانع.

10- فإذا خرجت إلى الناس لم تغتر أن هنأوك على الحمام، فإنما هي جولة ناجحة رابحة بين يدي جولات مع الأوساخ والنتن. وحاجتنا إلى الحمام لا تنقطع. فإن عز ألا يُتاح الحمام التركي الساخن إلا مرة واحدة في الأسبوع، أو في أكثر من الأسبوع، فلا أقل من أن يُقيم كل مؤمن في عُقر داره «حُمَيْماً» -إن جاز التصغير- يفي بما لا يستطيع، يكفي فيه الوضوء ويفي بغرض التوبة والتطهير إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (سورة البقرة، 220).


[1] هذه الأقوال المتعلقة بالرباط ومميزاته وحسناته، ومحفزاته ومحاذيره نقلتُها بالمعنى كما تلقيتها مشافهة من الإمام رحمه الله في مجالسه ولقاءاته في أكثر من مناسبة، وفصلت القول فيها بسطا وتحليلا ليتضح المراد منها، وتجلو للقارئ المرامي والمقاصد.
[2] رواه مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
[5] رواه الإمام أحمد رحمه الله من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها مرفوعا.
[6] هو تشبيه لتقريب المعنى، وإلا فالحمام أيا كان نوعه، وأينما كان وضعه، ومهما كان نفعه، إذا رفعت فيه الأصوات، وكشفت فيه العورات لم يكن إلا مرتع فتنة يعيث فيها شياطين الإنس والجن فسادا.
[7] رواه الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله في الأدب المفرد وأبو داود وابن حبان والطيالسي رحمهم الله عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.