هي السيدة هند بنت سهل بن المغيرة المكنى أبي أمية بن المغيرة الملقب “بزاد الراكب”، من بني مخزوم، أمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك من بني فراس، وهي بنت عم خالد بن الوليد سيف الله، وهي أيضا بنت عم أبي جهل بن هشام عدو الله.
نشأت رضي الله عنها نشأة طيبة متأثرة بأخلاق أبيها، فكانت سخية كريمة منفقة تضحي بمالها وجهدها في سبيل الله في صباها وشيخوختها، حيث كانت موضع احترام وتقدير من كل العرب.
إسلامها
تزوجت أمنا هند ممن أحبها ورغب الزواج منها؛ الشاب القرشي الشريف عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه، وكان من أعز فتيان مكة خلقا وخليقة، وكانت الزوجة الصالحة الوفية المطيعة، تحترمه وتقدره وتوفر له الجو المنزلي الذي يستريح إليه، وتقوم بشؤون زوجها وبيتها.
سمع عبد الله عن رسالة من بعث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم ودعوته واجتمع به واقتنع بها فآمن وآمنت زوجه رضي الله عنهما، وكانا من الطليعة الأولى الذين قامت على أكتافهم وجهادهم دعوة الإسلام. لم يكونا من الذين يخفون إسلامهم فتعرضوا لمعاناة شديدة من كفار قريش.
هجرتها إلى الحبشة
اشتد التعذيب والإيذاء من الفئة الباغية المشركة للمسلمين فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فشدت هند رضي الله عنها الرحال مع زوجها إلى الحبشة لا خوفا من الكفار ولا من العذاب ولكن طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في شهر رجب السنة الخامسة للبعثة في أحد عشر رجلا وأربع نسوة من بينهم رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحت عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا. أقاموا في المهجر معززين مكرمين حتى سمعوا بإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأن الله قد أعز الإسلام بهما فتشجع البعض من المهاجرين على العودة إلى مكة المكرمة، وآثر الآخرون البقاء في أرض الحبشة، وكان عبد الله وهند رضي الله عنهما ممن فضلوا الرجوع إلى مكة حبا وشوقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هجرتها إلى المدينة
عادت سيدتنا هند مع زوجها وابنهما سلمة إلى مكة حيث فوجئت أن قريشا لا زالت على حالها، بل ازدادت تعنتا واضطهادا للمسلمين. عندئذ طلب أبو سلمة جوار خاله أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فأجاره فامتنعت قريش عن إيذائه وخاصة عشيرته بنو مخزوم.
أقامت أم سلمة مع زوجها في مكة تتعرض مرة أخرى للأذى وهي صابرة محتسبة غير متزحزحة عن دينها. كانت أياما صعبة سمتها رضي الله عنها أيام الصبر والمصابرة في سبيل الله. أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة التي أصبحت بعد مرور زمن يسير مستقرا للدعوة ومنطلقا للتبشير.
تحكي سيدتنا أم سلمة رضي الله عنها: “لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه ومعي ابني سلمة. بينما نحن متوجهين نحو المدينة اعترض طريقنا رجال بني المغيرة فقالوا لأبي سلمة: “هذه نفسك غلبتنا عليها… أرأيت صاحبتك هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟” فنزعوا خطام البعير منه فأخذوني منه. غضب عند ذلك بنو عبد الأسد قوم أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده. حبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي إلى المدينة. قالت ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني، فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو ما يقاربها، حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فسألني: “ما الذي يبكيك؟” فقصصت عليه ما وقع فقال: “ابنة زاد الراكب والله لن أتركك”، فرحمني فقال لبني المغيرة: “ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها”، فقالوا لي” الحقي بزوجك إن شئت، فرد علي عبد الأسد ولدي فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فخرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق االله تعالى. فلما وصلت التنعيم (مكان إحرام أهل مكة، مسجد عائشة) التقيت عثمان بن أبي طلحة وكان مشركا آنذاك فسار معي حتى وصلت المدينة حيث كان يقيم أبو سلمة. (كانت مدة السفر 12 يوما، ما مسافته 500 كلم) اجتمع شمل الأسرة المجاهدة من جديد وانزاحت عنها سحب المعاناة.
وفاة ووفاء
عاشت أم سلمة رضي الله عنها في المدينة مع زوجها مربية لأبنائها: سلمة وعمر ودرة وزينب، ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو سلمة في صفوف المجاهدين في سبيل الله يخوض غمار المعارك، فكان له في بدر صولات وجولات وعرفته أرض أحد التي أبلي فيها بلاء حسنا حيث أصيب في عضده بسهم كاد يودي بحياته لولا لطف الله عز وجل. قامت الزوجة الحنون العطوف بتمريضه حتى اندمل. اختاره الحبيب صلى الله عليه وسلم قائدا على سرية “قطن” للقضاء على بني أسد فعاد منها ظافرا موفقا وقد أعاد للمسلمين هيبتهم، لكنه في المقابل أجهد نفسه وكان من أثر ذلك أن تجدد الجرح ثم تقيح فاستفحل فمرضته رضي الله عنها محتسبة مفوضة أمرها إلى الله بعين دامعة وقلب واله، فلما اشتد عليه المرض قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: “لا يصيب أحدا مصيبة فيسترجع عند ذلك ويقول إنا لله وإنا إليه راجعون ويقول اللهم عندك احتسبت هذه اللهم اخلفني خيرا منها إلا فعل الله ذلك” (رواه مسلم من حديث أم سلمة).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بزيارته يواسيه ويخفف عنه حتى وافته المنية فأغمض عينيه ورفع طرفه إلى السماء وقال: “اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين واخلفه في عقبه من الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له قبره” (رواه مسلم من حديث أم سلمة).
مرت على وفاته رضي الله عنه أربعة أشهر فجاء أبو بكر الصديق لخطبتها ثم عمر بن الخطاب فردتهما لكن بأدب وكبرياء.
تذكرت في خلوتها حديثا دار بينها وبين أبي سلمة: “بلغني أنه ليس من امرأة يموت عنها زوجها وهو من أهل الجنة ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة” قالت: “فتعالى أعاهدك وتعاهدني على ألا تتزوج ولا أتزوج”. فقال رضي الله عنه: “فإذا مت فتزوجي، ثم قال: اللهم ارزق أم سلمة رجلا خيرا مني، لا يحزنها ولا يؤذيها”.
زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد انقضاء عدتها، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فأخذ يواسيها ويخفف عنها وقال: “سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرا منها” فبكت وقالت: “من يكون خيرا من أبي سلمة يا رسول الله؟”.
إنها المرأة الكريمة المؤمنة الصادقة المحبة لدينها وزوجها.
جاء أمر الله تعالى لنبيه (ضم أم سلمة إلى أزواجه أمهات المؤمنين) تكريما لها ورفعا لمكانتها وتعظيما لشأنها ومواساة لها. أرسل عليه الصلاة والسلام حاطب بن أبي بلتعة خاطبا لأم سلمة فاستقبلته بترحاب وأبلغته أسباب رفضها له: “إني امرأة مسنة ومصبية وشديدة الغيرة”.
فرد صلوات ربي وسلامه عليه: “أما عن السن فأنا أسن منك، وأما عن أنك أم أيتام فإن أبناؤك هم أبناء أخي ومؤونتهم على الله ورسوله، أما الغيرة، فإني أدعو الله أن يذهب عنك ذلك”.
تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وتربى أولادها في بيت الرسالة. كانت مثالا للمرأة الصالحة، من النساء العاقلات الناضجات، عاشت في بيت النبوة مقدرة وجودها حريصة على مكانتها مراعية لجانب المودة والرحمة والألفة مع أمهات المؤمنين، وترقت في درجة ما بعدها درجة قد أصبحت أما للمؤمنين. أما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا صلى العصر دخل على أزواجه واحدة واحدة مبتدئا بأمنا أم سلمة ومنتهيا بأمنا عائشة رضي الله عنهن جميعا. صاحبته صلى الله عليه وسلم في العديد من الغزوات: خيبر، وفتح مكة، وهوازن، وثقيف، كما صحبته في حجة الوداع.
صلح الحديبية
يشهد التاريخ لهذه السيدة الفاضلة برجاحة عقلها وسرعة تفكيرها، فبعد توقيع عقد الصلح مع وفد قريش أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه بالنحر والحلق فلم يقم منهم أحد، كرر ذلك ثلاث مرات دون أن يستجيب أحد، فدخل على أمنا أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما حدث فقالت: يا رسول الله أتحب أن يطيعك أصحابك فيما تأمرهم به؟ قال: “نعم” قالت: “اخرج عليهم فلا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك”، استشارهـا فأشارت عليه فقبل المشورة، فاستصوب عليه الصلاة والسلام رأيها ففعل فلما رآه الصحابة قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد أحدهم يقتل الآخر.
أم سلمة والقرآن
أخبرنا أبو عمرو إسماعيل بن نجيد، حدثنا جعفر بن محمد بن سوار، أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة – رجل من ولد أم سلمة – قال: قالت أم سلمة يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (آل عمران: 195) (رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه).
ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم: “ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وهو يتلو هذه الآية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا . (الأحزاب، 35).
فقد ذكر مجاهد قالت أم سلمة: “يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث”، فنزل الوحي بقوله تعالى: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ، إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليما (النساء، 32).
بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
بعد أن لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى أقامت السيدة الفاضلة أم المؤمنين عاكفة في بيتها؛ تعبد ربها ملتزمة بنصوص القرآن والسنة، ترقب مجريات الأمور فتدلي برأيها في كل شأن خاصة ما يهم أصحاب السلطان من الخلفاء والولاة.
ومما سجل لها:
1) أنها دخلت على عثمان بن عفان وهو خليفة رضي الله عنه وحدثته ناصحة قالت: “يا بني مالي أرى رعيتك عنك نافرين وعن جناحك ناقرين (ممتنعين) لا تقف طريقا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ولا تقتدح بزند كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكباه وتوخ حيث توخ صاحباك فإنهما ثكما الأمر ثكما (أي أقاما) ولم يظلما، هذا حق أمومتي قضيته إليك وإن عليك حق الطاعة”، فقال عثمان رضي الله عنه: “أما بعد فقد قلت فوعيت وأوصيت فقبلت”.
2) كذلك إنكارها بعنف وشدة على ما أرادت أمنا عائشة القيام به (الذهاب إلى العراق)، فبكت بعد ذلك وحزنت على خروجها وتمنت أن لو سمعت كلامها، رضي الله عنهما أعظم الرضا.
3) كما أرسلت إلى معاوية حين أمر بلعن الإمام علي كرم الله وجهه على المنابر قائلة: “إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ذلكم أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله”.
وفاتها رضي عن الله عنها
ظلت رضي الله عنها المرأة التي تصدع بالحق لا تخشى في ذلك لومة لائم. فلما كان شهر ذي القعدة من السنة التاسعة والخمسين للهجرة دب الفناء إلى أوصالها وأسلمت الروح إلى ربها راضية مرضية، فصلى عليها أبو هريرة ودفنت بالبقيع. رضي الله عن أمنا هند وأرضاها.