البنون نعمة عظيمة يهبها الله عز وجل لعباده، وهم زينة الحياة الدنيا يفرح بها من رُزقها ويتشوف لها من حرمها ويتشوق. يخرجهم الله تعالى إلى هذه الدنيا على الفطرة. وعلى عاتق الآباء تقع مسؤولية رعاية هذه الفطرة وحفظها من المسخ والتشويه. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها” 1 وقال أيضا: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء” 2.
ومن أعظم ما تصان به الفطرة ربط هذه النفوس الطرية بالقرآن الكريم وتنوير أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم بنوره. قال عليه الصلاة والسلام: “أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم وحب أهل بيته وقراءة القرآن فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله…” 3. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه ـ يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الوالد وابنه وأنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن)، قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئا من ذلك، أما أمي فإنها كانت ونجية لمجوسي، وقد سماني جُعلا (أي خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفا واحدا فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: (جئت تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك!) 4. فقد استقر لدى ذلك الجيل الصحابي أن إهمال تعليم الأطفال شيئا من كتاب الله عز وجل منذ الصغر واحد من أهم أسباب فسادهم وفتح باب الانحراف أمامهم.
وفي المقابل نجد أن تعليم البنين كتاب الله عز وجل من أعظم أسباب رفع البلاء عن الأمة بأسرها. فقد جاء في الحديث: “إن الله عز وجل لا يغضب فإذا غضب سبحت الملائكة لغضبه فإذا اطلع إلى الأرض ورأى الولدان يقرءون تملى ربنا رضا” 5. وأخرج الدارمي عن ثابت بن عجلان قال: “كان يقال إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا تعلم الصبيان الحكمة صرف بذلك عنهم يعني بالحكمة القرآن” وأخرج الثعلبي ـ بسنده ـ عن حذيفة مرفوعا: “إن القوم يبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله فيرفع عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة” 6 سبحان الله! غضب إلهي بسبب ما كسبت أيدي العباد يتحول إلى رضا وعفو بقراءة الولدان القرآن الكريم.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليم الصغار القرآن الكريم كما يعلم الكبار، ويصقل قلوبهم وأرواحهم بنوره. فقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقن صبية بني هاشم إذا أفصحوا قول الله عز وجل: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا سبع مرات. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم” 7 وقد صح عن ابن عباس أنه حفظ القرآن وهو صغير.
وعلى هذا النهج صارت الأمة بعد ذلك جيلا بعد جيل يتعلم الصبيان أول ما يتعلمون كتاب الله عز وجل. وفي تراجم العلماء والصالحين تجد معظمهم أتموا حفظ القرآن وهم صغار السن. فقد حفظ الإمام الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين. وقال ابن الجزري في ترجمة الإمام حمزة بن حبيب الزيات: (أحد القراء العشرة، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة، حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين، وابتدأ في الطلب وهو ابن ثلاث عشر، وكان ثقة كبيرا زاهدا عابدا عالما). وقيل إن الأوزاعي كان يسأل الغلام الذي يأتيه يتعلم منه: يا غلام قرأت القرآن؟ فإن قال نعم قال: اقرأ يوصيكم الله في أولادكم وإن قال لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم). وفي ترجمة ابن سينا: (في بخارى بدأ ابن سينا رحلة تلقي العلوم، حيث حفظ القرآن بأكمله وعمره لم يتجاوز العاشرة…).
فإذا كانت الأنظمة التعليمية المعاصرة لا تتيح للطفل أن يرتوي أولا من القرآن الكريم فلا أقل من وضع برنامج له بموازاة مع التعليم في المدارس لإعانته على حفظ كتاب الله عز وجل أو على الأقل أجزاء منه…
إن تعليم الأطفال كتاب الله عز وجل منذ صغرهم يكون أدعى إلى رسوخه في أذهانهم وصدورهم، وحتى وإن تفلت منهم بعد بسبب إهمال أو انشغال عنه يكون من السهل استرجاعه. فقد جاء في الحديث: “العلم في الصغر كالنقش على الحجر” 8 وعن أبي هريرة مرفوعا: “من تعلم القرآن في شبيبته اختلط القرآن بلحمه ودمه، ومن تعلمه في كبره، فهو ينفلت منه ولا يتركه، فله أجره مرتين” 9 وعن ابن عباس: “من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا” 10. وعن إبراهيم النخعي عن علقمة قال: أما ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة، ولفظ البيهقي: فكأني أقرأه في دفتر، ولبعضهم: أراني أنسى ما تعلمت في الكبر ولست بناس ما تعلمت في الصغر.
وإذا ارتبط هذا التعليم بالتربية الحسنة التي تنشئ الصغار على تمثل النموذج النبوي وعلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار وصحبه الكرام، وإذا ارتبط كذلك بالقدوة الصالحة وصحبة الجلساء الصالحين أثمر ذلك كله جيلا قرآنيا نجد وصفه في كلام الإمام المرشد رحمه الله في كتاب إمامة الأمة: (كانت تلك الأجيالُ أجيالا قرآنية، أولُ ما دخل جوفَها القرآنُ، وأولُ كتاب تناولتْه القرآنُ، وأعزُّ كتاب عندها في سويداء القلب القرآنُ. لا جرم أن يكون لِكتاب الله وكلامه في تلك القلوب الطاهرة المكانةُ الأولى، ولسنة رسوله وكلامه مكانةٌ تسامتها. وقد أخذت تنقشع ولله الحمد فتنةٌ كان عامة المسلمين فيها يقرأون القرآن، إن قرأوه، كما يَنظُرون في بعض الكتب. عاد ولله الحمد هذا الشباب الصالح إلى كتاب الله. وهذا يبشر أن دولة القرآن تتهيأ ليحتل القرآن في الأجيال القادمة إن شاء الله مكانة الشمس يسطع نُوره يُضيء الأرجاءَ، ومكانةَ الغيث يُرْوي أراضيَ القلوب المتعطشة، ومكانةَ المرجع المقدس، حول معانيه، وفي خدمة أهدافه وغايته، تتبارى العقول. ننتظر أن يُجيزنا الله عز وجل إجازة الطالبين الراغبين فيجعلَ القرآنَ ربيعَ القلوب، ولِقاحَ العُقول، وحياةَ النفوس، ودستور الحركات والسكنات. بذلك نكون أجيالاً قرآنية كما كان الأولون رضي الله عنهم وألحقنا بهم في دار النعيم، دار يقال فيها لقارئ القرآن: “اقرأ وارق” في معارج السابقين. ذلك لمن كان القرآنُ في اعتقاده، وفي علمه وتصرفه، وفي حياته ومماته، هو الكتاب) 11.
لذلك كانت حاجة الأمة إلى جيل قرآني يسري نور القرآن في أوصاله حاجة ملحة. وما جنى على الأمة إلا أجيال من المغتربين الذين خلت قلوبهم من القرآن وخربت، وغذيت أرواحهم من صديد الثقافة الغربية وفلسفتها. ولنا في المقاومة الإسلامية الشريفة بغزة العزة خير دليل حيث تتربى الأجيال الطاهرة هناك على تلاوة القرآن وحفظه وتقدم صفوف الجهاد به.
كما أن تعليم القرآن الكريم للأطفال يصقل مواهبهم وينمي قدراتهم. ولذلك نقرأ في سير علمائنا أنهم لما حفظوا القرآن في الصغر ثم تفرغوا بعد ذلك للعلوم الأخرى تفتقت عقولهم عن عبقرية لا مثيل لها وعن موسوعية لا حدود لها.
وأما الآباء والأمهات فغنمهم من هذا الأمر عظيم، فقد جاء في الحديث: “من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والده يوم القيامة تاجًا ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا وكانت فيه فما ظنكم بالذي عمل به” 12. وفي رواية أخرى: “من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس يوم القيامة تاجًا من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ويُكْسَى والداه حلتان لا يُقوَّم بهما الدنيا فيقولان بما كسينا فيقال بأخذ ولدكما القرآن” 13. ورحم الله زمانا كانت الأسرة تحرص على حفظ الولد القرآن منذ الصغر وتقيم الولائم وتذبح الذبائح كلما قطع شوطا مهما في الحفظ كأن يحفظ ربع القرآن أو نصفه، أما حفلة الختم فوليمة مشهودة!
[2] أخرجه مسلم.
[3] أورده السيوطي في الجامع الصغير.\
[4] تربية الأولاد في الإسلام: 1/ 127 ـ 128.
[5] أخرجه ابن عدي.
[6] هذه الأحاديث الثلاثة ذكرها الحافظ أبو الفيض الإمام أحمد بن محمد بن الصديق في كتابه مسالك الدلالة في شرح مت الرسالة ص: 2 ـ 3.
[7] أخرجه البخاري.
[8] رواه البيهقي.
[9] أخرجه البيهقي.
[10] أخرجه البيهقي والديلمي.
[11] كتاب إمامة الأمة: 161 ـ 162.
[12] رواه الحاكم في المستدرك.
[13] رواه الحاكم في المستدرك.