إنها الأيام العشر من ذي الحجة، أفضل الأيام عند الله تعالى، وفيها نزل قوله عز وجل: لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [سورة الحج آية 28]. وبها أقسم الله تعالى في بداية سورة الفجر وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ. ودلت هذه الآيات على فضل هذه الأيام المباركات، وأن العمل فيهن من أفضل الأعمال، ويؤكد هذه الأفضلية ما جاء في صحيح ابن حبان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة”.
فأوقد سراجك أيها المؤمن، وانفض عنك غبار العجز والكسل والتسويف، واغتنم الأوقات والأمكنة التي عظمها الله تعالى وجعلها مطية العبد ليتقرب إلى مولاه، وأكثر من العمل الصالح، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل فيها أفضل من العمل في غيرها من الأيام.
ففي بيان فضل العمل فيها يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث ابن عباس: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام (يعني: أيام العشر)، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله. قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء”؛ وفي الحديث كما يظهر ترغيب وحث على استغلال هذه الأيام الفاضلة في العمل الصالح الذي يشمل جميع أبواب الخير، من عبادات ومعاملات وأخلاق.
والمؤمن مطالب باغتنام هذه الأيام المباركة في العمل الصالح. ولعظمها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل فيها والاجتهاد في طرق أبواب الخير، بابا، بابا، ليغنم الأجر والثواب، فلا يدري أي باب يفتح له فيه، وأي عمل يكون سببا لمرقاته، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من عمل أزكى عند الله تعالى ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى” [رواه الدارمي وحسنه الألباني].
أوقد سراج همتك وإرادتك وعزيمتك، لتقبل على العمل الصالح، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فالهمم إذا أخلدت إلى الأرض وخمدت جذوتها ذهب نورها وانتكست بذلك الإرادات، ووهنت العزائم، فتضيع الفرص، كمن كان عطشانا وبيده قربة مثقوبة لجلب الماء، فالماء يسيل رقراقا صافيا لكن أصحاب القرب المثقوبة لا يرتوون من مائها، كما أن أصحاب الهمم الفاترة، والقلوب الغافلة، لا يستفيدون من الأيام العشر، ولا يغنمون من هذه المناسبات العظيمة التي هيأها الله لعباده.
ومن الأمثلة على أصحاب الهمم العالية أن التابعي الجليل سعيد بن جبير كان إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: “لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر، يريد قراءة القرآن وصلاة الليل”.
وقد كان من سبقونا من الصحابة والصالحين يجتهدون في هذه الأيام، ويكثرون من العمل فيها، رغبة في نيل الأجر، وتعرضا للرحمات الربانية، والنفحات الإلهية. فقد ذكر البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يخرج إلى السوق فيكبر ويكبر الناس بتكبيره، وكان سيدنا عمر بن الخطاب يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا. وكان سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وممشاه تلك الأيام جميعا.
هكذا كان الصحابة والسلف الصالح يجتهدون في الأيام العشر، وعلى خطاهم يجب أن يسير المسلمون في كل وقت وحين. فأبواب الرحمان مفتوحة في وجه كل مقبل على الله تعالى. وهذا لا يتأتى إلا لمن أوقد سراج قلبه، فصاحب القلب الميت والمظلم أنى له أن يستجيب وأن يستشعر عظم هذه النسمات الربانية.
أوقد سراج قلبك لينير الجوارح ويفيض نوره على الأعمال، فقد جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن في قلب المؤمن سراجا يزهر، ومدار الأمور على أحوال القلوب، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” [متفق عليه]، فحياة القلوب لا تكون إلا بذكر الله تعالى في وسط مؤمنين ذاكرين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت” [صحيح البخاري]. فـ”يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري، أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين؟ تعرض لنفحات مولاك في هذا العشر، فإن لله فيه نفحات يصيب بها من يشاء، فمن أصابته سعد بها آخر الدهر” 1.
وهذه الأيام العشر فرصة للغافل ليتدارك ما فاته، فيكثر من الأذكار المسنونة وعلى رأسها الإكثار من الكلمة الطيبة “لا إله إلا الله”. وفرصة للذاكرين للاستزادة من الأنوار والخيرات مع التوجه لله تعالى بالدعاء بالثبات والتوفيق اقتداء بدعوات السابقين من المحسنين: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران آية 8]. وإذا استنارت القلوب فاض نورها على الجوارح والأعمال كما يضيء السراج في الغرفة المظلمة، فيقبل المؤمن على الاستزادة من الأعمال الصالحة، فالعمل الصالح في هذه الأيام العشر “أزكى عند الله” و”أحب إلى الله”، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” [أخرجه الإمام أحمد].
وأنواع الأعمال المطلوبة في هذه الأيام كثيرة منها التكبير والذكر، والإكثار من النوافل، والدعاء، وقيام الليل، وصلة الأرحام، وعيادة المريض، وانتظار الصلاة في المسجد، ومحبة المؤمنين، وتفريج الكرب وقضاء الحاجات، وإدخال السرور على الناس، والصدقة، والتوبة والإقلاع عن المعاصي، وتزكية القلوب من الحسد والبغض والكبرياء، ونصرة المظلومين.
وفي معرض ذكر الأعمال على وجه الإجمال لا بأس من تخصيص بعضها بالذكر زيادة في التأكيد ولفتا لأنظار المقبلين على هذه الأيام لزيادة الاهتمام بها.
فمن الأعمال المرغوب فيها صيام هذه الأيام المباركة، وخاصة يوم وقوف الحجاج بجبل عرفات، فقد روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده”. وهذا اليوم هو الذي أنزل الله فيه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [سورة المائدة آية 4]. وهو يوم اختصه الله بالرحمة والمغفرة ويباهي به ملائكته، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عَرَفاتٍ أهلَ السَّماءِ؛ فيَقولُ لهم: انظُروا إلى عِبادي جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا” [رواه الحاكم في المستدرك].
ومن الأعمال كذلك مساعدة الناس وقضاء حوائجهم، ففي الحديث الذي رواه ابن أبي الدنيا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كربا، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا..”.
ومن الأعمال الجليلة الحفاظ على الصلاة وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: “الصلاة على وقتها”. قال: ثم أي؟ قال: “بر الوالدين”. قال: ثم أي؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”.
ومن الأعمال الخاصة بهذه الأيام العشر الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم “ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما”. وفي فضلها ورد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا” [أخرجه الترمذي].
هي أعمال فاضلة بحب الله تعالى لها، وهي أوقات فضلى بتعظيم الله تعالى لها، وفي الأيام العشر يجتمع الخيران، فتشرف الأعمال بذاتها وبوقت فعلها وإنجازها، وتلك ميزة عظيمة ومنة ربانية شرف بها الله المؤمنين والمؤمنات في الأيام العشر، الذين استجابوا لنداء الحق تعالى لينالوا الحظوة والمنزلة الرفيعة وينعموا بأنوار القرب والوصال من الله تعالى، وبهذا يكون الخير مضاعفا والأجر وفيرا والسراج منيرا، قال تعالى: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [سورة النور آية 40].
وختاما أتوجه إلى الله تعالى بالدعاء، خاشعا، متضرعا، أن يوفقنا جميعا إلى العمل الصالح في هذه الأيام المباركة، وأن ينير قلوبنا بحلاوة ذكره في وسط مؤمنين صالحين، وأن ينزل نصره الموعود على عباده المؤمنين المدافعين عن دينه الحق، آمين.