تعد صلة الرحم من أعظم وسائل القرب من الله سبحانه وتعالى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ حتَّى إذا فَرَغَ منهمْ قامَتِ الرَّحِمُ، فقالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: نَعَمْ، أما تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى، قالَ: فَذاكِ لَكِ) (1).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرَّحِمُ شِجْنَةٌ، فمَن وصَلَها وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَها قَطَعْتُهُ) (2).
وقد استجاب سبحانه وتعالى للرحم، فمن وصل أرحامه وصله الله بالخير والإحسان ومن قطع رحمه تعرض إلى الخسارة والهلاك بقطع الله إياه، وإنه لأمر جلل أن يقطع خالق السموات والأرض عبدًا ضعيفاً فقيراً. قال الله عز وجل يمدح أولي الألباب: إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ ٱلَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا یَنقُضُونَ ٱلۡمِیثَـٰقَ وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَیَخَافُونَ سُوۤءَ ٱلۡحِسَابِ (الرعد: 19 – 20 – 21).
من صفات أولي الألباب صلة الرحم، قال الطنطاوي: “من صفات أولى الألباب – أيضا – أنهم يصلون كل ما أمر الله – تعالى – بوصله كصلة الأرحام، وإفشاء السلام ، وإعانة المحتاج ، والإِحسان إلى الجار” (3).
فصلة الرحم ووصل العلاقات الاجتماعية بصفة عامة وتمتينها داخل فيما أمر الله به أن يوصل، وراجع إلى الوفاء بعهد الله وميثاقه المتمثل في حفظ الدين وذلك من أعلى مراتب التعبد.
أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نصل رحمنا، أمرنا أن نصل من قطعنا، أمرنا أن نكون مع الذين صدقوا، أن نكون مع المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة: 119).
يقول الإمام الشافعي: “وأوَّل ما أمر به الله أَنْ يُوصَل هو صِلَة الرَّحم؛ أي: أن تَصل ما يربطك بهم نَسَبٌ. والمؤمن الحقٌّ إذا سَلْسَل الأنساب؛ فسيدخل كُلُّ المؤمنين في صِلَة الرَّحم؛ لأن كل المؤمنين رَحِم مُتداخِل؛ فإذا كان لك عَشْرة من المؤمنين تَصِلهم بحكم الرَّحِم؛ وكل مؤمن يَصل عشرة مثلك، انظر إلى تداخل الدوائر وانتظامها؛ ستجد أن كل المؤمنين يدخلون فيها” (4).
وقال القرطبي في تفسير قَوله تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ظَاهِرٌ فِي صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ” (5).
ذكر الرازي رحمه الله في تفسير قوله عز وجل وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ثلاثة أوجه “الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«ثَلَاثٌ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا ذَلَقٌ الرَّحِمُ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ قُطِعْتُ، وَالْأَمَانَةُ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ تُرِكْتُ، وَالنِّعْمَةُ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ كُفِرْتُ» .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ صِلَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ فِي الْجِهَادِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: رِعَايَةُ جَمِيعِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْعِبَادِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ صِلَةُ الرَّحِمِ وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: 10] وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الصِّلَةِ إِمْدَادُهُمْ بِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعُ الْآفَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّبَسُّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حَيَوَانٍ حَتَّى الْهِرَّةُ وَالدَّجَاجَةُ” (6).
وقال ابن عاشور: “(وما أمر الله به أن يوصل) عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها؛ فمنها آصرة الإيمان، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم. وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل في سورة البقرة (26 – 27).
وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول (ما أمر الله به أن يوصل) لما في الصلة من التعريض بأن واصلها آتٍ بما يرضي الله، لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطيعة مع بني هاشم.
وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عندما حاربوهم وناووهم.
وقوله: (أن يوصل) بدل من ضمير (به)، أي ما أمر الله بوصله. وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية” (7).
فكل الواجبات الدينية بدءًا من أصول الدين إلى أحكام الفروع، ومن أسس الإيمان إلى أركان الإسلام، تمثل نوعًا مما يجب أن يوصَل، وبمعنى أكثر خصوصية، فإن المقصود من الصلة هنا هو صلة الرحم كما قال أكثر المفسرين، وذلك بمراعاة أواصر القربى وعلاقاتها، يقول وهبة الزحيلي “صلة ما أمر الله بوصله: من حقوق الله ومؤازرة النّبي والقرآن، وحقوق العباد التي من أهمها وأولاها: صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والمحتاجين والفقراء لأن من شأن المؤمن أن يعمّ خيره ويدوم نفعه، ويؤدي واجبه نحو غيره لإرضاء ربّه، دون أن يقصد نفعا مادّيا لنفسه أو طمعا في مال أو جاه أو وظيفة، فإن الله ربّ العباد هو الميسّر للخير والمانع من الشّر، والعبد مجرد أداة ووسيلة” (8).
إلى نفس المعنى ذهب السعدي في تفسيره لهذه الآية، قال: “وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله، من الإيمان به وبرسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، ولطاعة رسوله.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب والأرحام، بالإحسان إليهم قولا وفعلا ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية” (9).
والعبد المؤمن يصل ما أمر الله به أن يوصل لإرضاء الله عز وجل وخشية منه سبحانه وتعالى، يقول القرطبي: “وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ قِيلَ: فِي قَطْعِ الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. سُوءُ الْحِسَابِ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ وَالْمُنَاقَشَةُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ” (10).
يقول السعدي: “والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل، خشية الله وخوف يوم الحساب، ولهذا قال: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: يخافونه، فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب” (11).
وإنما نقم من الأمم السابقة بما نقضت من تلك المعاني العظمى، ففسقت عن أمر الله: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (الرعد: 25).
وتمتين العلاقات الأسرية وحفظ النسيج الاجتماعي يقوم على مقاصد التواد والتراحم والتعاطف، وهي أعمال قلبية وجدانية مشتركة بين المؤمنين كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والْحُمَّى” (12).
فالمجتمع الذي ينشأ أفراده على التواصل والتراحم هو مجتمع إسلامي مبني على الأخوة الإيمانية، يمد العـالم الإسلامي بخيرة الموجهين والمفكرين والمعلمين والدعـاة والمصلحين الذين يحملون مشاعل الهداية ومصابيح النور إلى أبناء أمتهم، وإلى الناس أجمعين.
روى الشيخان رحمهما الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: “المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا” (13).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ، وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ” (14).
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “لا غروَ مجتمع كانت تنزل عليه السكينة بتمسكه بالقرآن، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده أن يكون خير أمة، وارحمها بالخلق، وأسرعها لعون الضعيف، وكشف كربته، وتيسير عسرته” (15).
بالرجوع إلى القرآن الكريم، والاهتداء بهديه، والعمل بأوامره، يعود للأمة الإسلامية مجدها وسيادتها، وتصل إلى ما وصلت إليه في عصرها الأول، عصر الازدهار البهيج، والعز المنيع، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كبيرا (الإسراء: 9).
وقد أرسل الله سبحانه وتعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ليُعلم المسلمين الكتاب والحكمة للقيام بدورهم الاستخلافي في الأرض بالشكل المطلوب الذي يليق بمكانتهم، يقول عز من قائل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (آل عمران: 164).
(1) رواه مسلم برقم (2554).
(2) رواه البخاري برقم (5989).
(3) التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة، الطبعة: الأولى، 470/7.
(4) تفسير الشعراوي، الخواطر، محمد متولي الشعراوي، الناشر: مطابع أخبار اليوم، 12/ 7276 / _7277.
(5) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق أحمد البردوني إبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ – 1964 م، 310/9.
(6) مفاتيح الغيب: التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ ، 34/19.
(7) التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ، / 128_127.
(8) التفسير الوسيط للزحيلي، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، الناشر: دار الفكر – دمشق، الطبعة: الأولى – ١٤٢٢ هـ، 2 / 1661- 1662.
(9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م، ص 416.
(10) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مصدر سابق، 310/9.
(11) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، مصدر سابق، ص 416.
(12) رواه مسلم برقم 2586.
(13) أخرجه البخاري برقم (2446)، ومسلم برقم (2585).
(14) رواه مسلم برقم (2699).
(15) إمامة الأمة، عبد السلام ياسين، الناشر: دار لبنانللطباعة والنشر، الطبعة الأولى : 1430هـ – 2009 م، ص 115.