لا يخفى على عاقل ما لكظم الغيظ وما يرافقه من الصبر وتحمل الأذى من دور كبير في حفظ العلاقات الأسرية والإنسانية بصفة عامة مع ضمان استمرارها، ناهيك عن أهم فائدة، ألا وهي نيل رضى الله تعالى ورفع الدرجات.
وقد وردت أدلة من الكتاب والسنة تمدح وترغب وتبين ما لهذا الخلق الكريم من مكانة رفيعة في ديننا، ذلك أن كظم الغيظ من أصعب الأخلاق تطبيقا على أرض الواقع، وصاحبه يمتلك قدرا كبيرا من الإيمان والتوفيق لأن النفس بطبعها تغضب بسرعة، وترد الصاع صاعين، وترفض من يهاجمها ويستفزها. لكن المؤمن الصادق يستشعر في كل وقت وحين مراقبة الله عز وجل، ويتصرف وفق مراد الله، ويتبع الكتاب والسنة، يقتدي بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتفي أثره في تملك النفس وضبطها والتحكم في نزواتها، وكيف لا و قد عفا صلوات الله عليه، بل ودعا لمن كسروا رباعيته في إحدى الغزوات، قائلا: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فما هو كظم الغيظ؟
وما هو فضله؟
وكيف نكتسبه حتى يصبح خلقا راسخا في حياتنا؟
تعريف كظم الغيظ
معنى الكَظْم لغة:
أصل مادة كظم يَدُلُّ على معنًى واحد، وهو الإمساك، والجَمعُ للشَّيء، وأَصْل الكَظْم: حَبْسُ الشَّيء عن امتلائه، يقال: كَظَمْت القِرْبَة، إذا ملَأْتها، ويقال: كَظَمْت الْغَيْظ، أَكْظِمُه كَظْمًا، إِذا أمْسَكت على ما في نفسك منه (1).
معنى الغيظ لغة:
الغَيْظ: الغَضَب، وقيل: الغَيْظ غَضَبٌ كامنٌ للعاجز (2)، وقيل: هو أشدُّ من الغَضَب، وقيل: هو سَوْرَته وأوَّله. وغِظْت فلانًا، أَغِيظُه غَيْظًا. وقد غَاظَه، فاغْتَاظ. وغَيَّظه، فتَغَيَّظ، وهو مَغِيظ (3).
وقال الأصفهاني: الغَيْظ: أشدُّ الغَضَب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فَوَرَان دم قلبه (4).
معنى كَظْم الغَيْظ اصطلاحًا:
كَظْم الغَيْظ: تجرُّعه، واحتمال سببه، والصَّبر عليه (5).
وقال ابن عطيَّة: كَظْم الغَيْظ: ردُّه في الجَوْف إذا كاد أن يخرج مِن كَثْرَته، فضبطه ومَنَعَه (6).
فضل كظم الغيظ
مدح الله الكاظمين الغيظ في كتابه الكريم قائلا: وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (ال عمران: 133-134).
جاء في تفسير الألوسي: والمراد: والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينفقون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره، بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنفاذ والانتقام، وهذا هو الممدوح؛ فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: “من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا”“.
فالكاظم للغيظ يقهر نفسه ويخزي شيطانه ويرضي ربه، وهذه هي الغاية، فالقوي من تحكم في قوة الغضب وشهوتي التشفي والانتقام؛ فضبط تصرفاته وأمسك لسانه عن الوقوع في السب واللعن والشتم، وجوارحه عن البطش، وقلبه عن الحقد والغل والحسد، فسلم ونجا من الوقوع في مستنقع الذنوب والمعاصي، وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغَضَب” (7)، قال المناوي: (… “ليس الشَّديد بالصُّرَعَة”. بضمٍّ، فَفَتْح، مَن يَصْرَع النَّاس كثيرًا، أي: ليس القَوِيُّ من يقدر على صَرْع الأبطال مِن الرِّجال. “إنَّما الشَّديد” على الحقيقة؛ الذي يملك نفسه عند الغَضَب”.
وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من جَرْعَةٍ أعظم أجرًا عند الله، مِن جَرْعَةِ غَيْظٍ كظمها عبد ابتغاء وجه الله” (8).
كيف أتمكن من كظم الغيظ
1- التيقن والتسليم أننا في دار الاختبار والابتلاء، ولا بد من تعرضنا للأذى والظلم، حتى يميز الله الخبيث من الطيب و الصادق من المدعي، يقول تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (العنكبوت: 2-3).
2- استحضار الهدف من الوجود، والغاية السامية التي يجب أن نتوق إليها، فالغاية الله والمقصود الله، خلقنا للعبادة وللاستخلاف في الأرض، فلا نضيع وقتنا في الرد والجدال والمعاتبة، بل نغفر ونعفو ونصفح لننال عفو الله ورضاه، وكما قيل: من عرف ما طلب هان عليه ما وجد.
3- الاستعانة بالدعاء خصوصا في الأوقات الفاضلة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الكاظمين للغيظ والعافين عن الناس، وأن يقوينا به، فعن أبي هريرة رضي لله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟” (9).
4- استحضار فضل كظم الغيظ والعفو عن الناس وحاجتنا لرضى الله وعفوه ومغفرته غدا يوم القيامة، فالجزاء يوم القيامة من جنس العمل في الدنيا، والكيس من تخلى عن الذنوب والمعاصي والوقوع في الزلل وتحلى بجميل الأخلاق والصفات.
5- صحبة الأخيار ذوي الأخلاق الحسنة، فالصاحب ساحب، قال صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَن النبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- قَالَ: “الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل” (10).
6- الاستعاذة والوضوء بعد الغضب مباشرة، وذلك مصداقًا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ” (11).
7- التزام الصمت بعد التعرض لما يثير الغضب في النفس، فالتسرع بالرد والدفاع عن النفس والانتصار لها قد يوقعنا في المحذور من قول أو فعل، فنصبح ظالمين بعد أن كنا مظلومين، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا غضب أحدكم فليسكت” (12).
8- تغيير الوضعية، فعن أبي ذر الغفاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع” (13).
فأول الصبر كظم الغيظ، وإذا نجحنا في هذه المهمة فالآتي أيسر، ومن لم يتحكم في لسانه وجوارحه عند الغضب مباشرة فقد عرض نفسه للزلل والخطأ والندامة، ولا يستحق شرف الاستخلاف في الأرض وبناء الأمة ودعوتها بالحال قبل المقال، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “وإن الأقوياء الأمناء الموعودين بالخلافة الثانية لفي أمس الحاجة إلى تُؤدة الصبر والأناة وكظم الغيظ لإحقاق الحق وبناء الأمة بقدر ما هم بحاجة إلى القوة العازمة المنضبطة لإبطال الباطل” (14).
ختاما أؤكد أن التربية هي المخرج للأمة من الغثائية والفتنة التي تعيشها، حيث أصبحنا مجرد كم مهمل بسبب بعدنا عن تطبيق شرع الله واتباع سنة حبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتقين وأحسن الناس خلقا، وما كظم الغيظ والعفو والصبر والصفح إلا نقطة من بحر السجايا الحسنة التي بدونها لا نستطيع السلوك إلى الله تعالى والارتقاء في مدارج الدين من إسلام لإيمان لإحسان، فالطريق الموصلة لله عز وجل وعرة ومحفوفة بالمكاره والابتلاءات، أصلها تجديد النية والحرص على صفاء القلوب محل نظر الحق، ومبناها على رحمة خلق الله والتجاوز عن هفواتهم وأخطائهم، بل والإشفاق عليهم والدعاء لهم ودعوتهم سيرا على خطى الحبيب صلوات الله عليه والأنبياء والمرسلين والصالحين.
رزقنا الله الحكمة والتؤدة، وجعلنا خير خلف لخير سلف، وعفا الله عمن ظلمنا، وغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا.
[1] لسان العرب لابن منظور (12/519).
[2] معجم اللغة العربية المعاصرة (3/1960).
[3] لسان العرب لابن منظور (7/11763).
[4] معجم مفردات القرآن للأصفهاني (ص: 619).
[5] فتح الباري لابن حجر (1/179).
[6] المحرر الوجيز لابن عطية (3/233).
[7] رواه البخاري (6114) ومسلم (2609).
[8] رواه ابن ماجه (3396) واللفظ له، وأحمد (2/128) (6114)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/314) (8307). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758).
[10] صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 4833. حديث حسن.
[11] السلسلة الضعيفة للألباني، الصفحة أو الرقم: 582 | خلاصة حكم المحدث: ضعيف.
[12] السيوطي، الجامع الصغير. الصفحة أو الرقم: 763، حديث حسن.
[13] ابن مفلح، الآداب الشرعية. الرقم: 2/260، حديث صحيح أخرجه أبو داود (4782)، وأحمد (21386).
[14] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج: 2، ط: 1، ص: 273.