بقلم: مصطفى الشاح
ذات ثلاثاء وأنا عائد من العمل ماشيا كعادتي، والشمس ترسل خيوطا خريفية دافئة والأفكار تتدافع في رأسي تحاول أن تجد لها مستقرا كما السفينة ترنو إلى الساحل عساها تحظى بأمن وهدوء بعد رحلة بين الأمواج المتلاطمة، تناهى إلى سمعي صوت مألوف أخرجني من نفق التفكير اللامتناهي قائلا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رددت التحية مرفوقة بابتسامة ترفع سقف الوصال بيننا، عساي أحظى ببركة (فحيوا بأحسن منها).
أوقف دارجته الهوائية والتفت إلي وكأن تحيتي منحته مفتاحا يدخل علي به من باب (إنما المؤمنون إخوة) وصاح بصوت عال:
أين السبحة؟! أين السبحة يا أخي؟!
ونزل السؤال علي كالصاعقة لا أجد له جوابا. وبدأت أردد أين السبحة يا إلهي؟! إنها في جيبي ياسيدي. كان صوته يحمل رنّة معاتب وناصح ومذكر، وكأنه ساعي بريد يحمل رسالة السماء. وطفقت أفتش كمن يبحث عن إبرة وسط رمال الصحراء الحارقة.
وأخيرا أمسكت سبحتي وصحت صيحة تائه فقد ناقته في الفلاة وكدت أصرخ (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، أشرت بسبحتي وقلت هاهي سيدي وبدأت أدافع لتبرير هفوتي وزلتي عساي أنجو من فخامة القاضي الذي ظل يرمقني ولا يريد فكاكا. وتابعت قائلا: سبحتي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها ولي فيها مآرب شتى. سبحتي مؤنستي في وحدتي ودليلي إلى ربي، سبحتي حبل وصالي بالسماء أستمطر بها الرحمات، سبحتي نافذة الإغاثة حين ينزل القضاء ويضيق الفضاء. سبحتي سفينة نوح عليه السلام بسم الله مجراها ومرساها تجري بنا على موج فتان كالجبال لترسوا في بر الأمان. سبحتي جذع نخلة العذراء تساقط رطبا جنيا. وطفقت أردد مستشفعا معتذرا سبحتي سبحتي …..
سبحتي طوق نجاة الخليل حين أرادوا به كيدا فكانت بردا وسلاما وجعلهم الله الأخسرين.
سبحتي نور في ظلمات بطن الحوت ونجاة لذي النون من ضيق وهم وغمّ مبين.
سبحتي أنس يوسف في وحشة الجب وحين حبسه الغدر سنين.
سبحتي قدر رحيم حمى الحبيب والصديق ببيض حمامة وخيوطا من نسج العنكبوت.
وظننت أن الجواب سيقنع ساعي البريد لكنه أصر على تعميق معاناتي والحفر في أوصالي ليتمم المهمة بنجاح، التفت إلي بكليته وقال بصوت صريح مليح مبشر منذر:
إنني كلما مررت بك أراك تحمل السبحة في يدك فمابالك اليوم تخليت عنها؟
أحسست أن الزمان توقف وصدى صوته يتردد على مسمعي كرعد صاعق خلت نفسي مفلسا أمام محكمة القدر والحكم علي جاهز قاس. سكتت برهة حسبتها سنوات ثم استجمعت قواي وقلت له: حبسني عنها غفلتي ووسواس خنّاس وأمّارة بالسوء اشتهت ظلمة الصدور وعزفت عن أنوار الذكر في حضرة الله عز وجل نعم المولى ونعم المذكور.
قال لي: سبحتك أنس تقيك كل شر وأذى.
قلت له: اللهم اجعلنا من أهل الخير الذاكرين الذين إذا رؤوا ذكر الله.
رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم آمين يا رب العالمين وراح يغالب عقبات الطريق بدراجته الهوائية.
أمسكت سبحتي بين يديّ المرتعشتين وقبلتها قبلة شوق وحنين خوفا أن تضيع مني فهي عكازتي وبوصلتي ونظارتي، الحمد لله طاوعتني وبدأت أعد وأعدد:
سبحان الله.
والحمد لله.
ولا إله إلا الله.
والله أكبر.
سكن قلبي واطمأنت نفسي وأحسست بنور من ربي يشق صدري ويسمو بروحي إلى عالم:
من ذكرني ذكرتُه.
ومن أحبني أحببته.
ومن تقرب مني منحته جواري.
ومن أنس بي منحته رضاي.
ومن دعاني أجبته.
ومن لباني لم أحرمه نظرتي.
رسالة ساعي البريد:
سبحتك عنوانك ومفتاح وردك.
سبحتك رباط قلبك وحبل وصالك.
سبحتك باب الذكر والقرب والأنس.
سبحتك حياة ذاتك ومعراج روحك.
سبحتك ثبات ونبات وحصن وسلام.