إن المتتبع لواقع الفاعلين السياسيين في الوطن العربي ليقف مشدوها أمام المستوى السلبي الذي وصلته الممارسة السياسية لنخبنا، فبين عشية وضحاها ينقلب الموقف لضده، ويتحول الحلف إلى عداوة، وتنتعش النعرات والعصبيات في الصفوف، وتطرق طبول الحرب إعلانا لبدإ “معركة” إسقاط الخصم لمجرد أنه خصم!!! فأين نحن من الخطابات الثورية الرنانة وشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي طالما عزفتها نخبنا السياسية على أنغام أناشيد الثورة في ساحات وميادين حراكنا العربي المبارك من كون الحرية مكفولة للجميع بسطا للتصورات والبرامج على أساس الاحتكام لسلطة الشعب اختيارا حرا ونزيها عبر صندوق خشبي أو زجاجي شفاف لا فرق؟
أليس من شيم الديمقراطية الاحترام المسؤول للاختيارات الشعبية الحرة مهما كانت مخالفة لاختياراتنا الشخصية والتنظيمية؟
فلم القبول باللعبة ابتداء والانقلاب عليها والطعن فيها انتهاء- إن كانت الحصيلة في غير صالحي – بدعوى حصول تزوير تارة و”عدم أهلية” الشعب للاختيار تارة أخرى؟!!!
وهل من الشهامة السياسية اعتماد منطق محاكمة النوايا واختلاق الوقائع والأحداث ولو فبركة لدعم الموقف المضاد؟
أليس منطق محاكمي النوايا هو نفسه منطق واضعي قانون “كل ما من شأنه” المشؤوم الذي اكتوى بجمره كثير من مناضلي الأمس؟
وكيف أصبح أسلوب التحريض وتجييش “البلطجية “للقيام بالاعتداءات الدامية والاغتيالات السياسية وحرق مقرات الخصوم والبنايات والمنشآت العمومية أسلوبا نضاليا في زمن التسيب النضالي الرديء؟
إننا أمام منزلق خطير يمس المصداقية الشعبية لكل مبادرة مجتمعية حرة، ويطرح الآلية الديمقراطية كلها قيد المساءلة والاتهام بالقصور والعجز عن تدبير الخلاف والاختلاف وإفراز بديل عن النظم الاستبدادية البائدة أو التي في الطريق، وبالتالي فقد ينفرط العقد في أية لحظة ويجهل المصير بعدئذ بعد أن يطلق العنان لبديل العنف والإكراه والاحتكام لسلطة الأقوى همجية في الساحات والميادين (وما أحداث تونس ومصر منا ببعيد).
إن الذين يعاندون التيار هم مغامرون ولا يمتلكون أدنى حس من المسؤولية التاريخية في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ وطننا العربي ويعتبر خيانة للأمة المنتفضة في وجه الظلم والفساد والاستبداد، فمنطق (أنا مع الصندوق إن كانت نتيجته في صالحي وإلا أعتمد أسلوب الرفض المطلق والمطالبة بإعادة اللعبة واعتماد التوافق النسبي عبر كوطا مشوهة للاختيار الشعبي) هو وصمة عار في جبين سياسيي اليوم لأنه يشيد لصرح استبداد سياسي من نوع آخر أبطاله مناضلون ذوو سابقة وتاريخ، ويشرعن لأسلوب الانقلاب على الإرادة الشعبية ولتزوير الاختيار الحر للبرامج المجتمعية قيد المنافسة الشريفة. لذا وجب تنبيه المغردين خارج السرب الشعبي بأن الربيع العربي لم يأت فقط لإسقاط الفساد والاستبداد ولكن أيضا لإسقاط مجموعة من العقليات والأنانيات والممارسات المرتبطة ببيئة الاستبداد النتنة، ومنها إسقاط عقلية الرقابة الأنانية على الاختيار الحر وإسقاط منطق الأستاذية النضالية التي يدعي البعض احتكارها دون غيرهم من الخصوم. وأن البديل الحقيقي المنشود هو كيفية صناعة المستقبل المشرق، مستقبل يتعايش فيه الرأي والرأي المخالف ويسعى لتجميع القواسم المشتركة بين المكونات السياسية المتنافسة لتنميتها وتطويرها على قاعدة الثقة والثقة المتبادلة وصولا إلى أرضية خلاص جماعي تنصهر فيها جل المقترحات الايجابية لبناء دولة عصرية حضارية تسع أبناءها بكل أطيافهم وألوانهم السياسية وتضمن المنافسة الحرة والشريفة بين المشاريع المجتمعية، فإرث ما بعد الأنظمة المستبدة أثقل مما يتصوره بعض المهرولين المدعين بامتلاك الوصفة السحرية لمعالجة الوباء المتعفن، فالتعفن الوبائي سائر إلى الانتشار ما لم يتم التدخل الحكيم بوصفة علاجية جماعية قد يأخذ مفعولها بعض الوقت ولكنه فعال في وقف الوباء وحصول الشفاء.