يجد الباحث في تتبع تاريخ المرأة وتطور أوضاعها الاجتماعية عبر العصور الكثير من العقبات؛ باعتبار ما عمدت إليه المصادر من تعتيم أدوارها وتغييب تفاصيل حياتها، اشتركت جلها في منحى رام ذكر بعض نساء النخبة ممن انتمين إلى عالم الوجاهة أو العلم أو التصوف، دون الإشارة إلى نساء الهامش، اللائي يمثلن شريحة عريضة من المجتمع، كان لهن دور في حركية التاريخ باعتبارهن العمق المؤسس والمعبر عن الواقع الذي بهرج قشوره الإخباريون وجملوه برقوش كاذبة؛ سرعان ما تتصدع مع مقابلة معطياتها بما تطفح به الأجناس الفقهية؛ التي تسعف في إبراز حقيقة وضعية المرأة في مختلف المجالات، من خلال الإجابات الفقهية واجتهادات أعلامها المرتبطة بحوادث ووقائع عصرها.
ولعل أهم ما يستنبطه الباحث من تلك الأجناس صورة المرأة في الذهنية الفقهية، التي لا جدال في انعكاسها على ذهنية المجتمع بكل مكوناته، وهو أمر لا بد من الوقوف معه في ورقتنا هذه؛ بغية الفهم الرصين لما قدمته شخصية دراستنا.
صورة المرأة في ذهنية الفقيه
لا جدال في أن الانكسارات التي شهدتها الأمة الإسلامية أحدثت شرخا عميقا على عدة مستويات، نذكر في هذا الصدد؛ ضياع الشخصية العلمية التي استقال عقلها وتفتتت علومها وانحصرت في فقه الفروع الجزئية؛ من خلال فتاوى دارت في حلقة ضيقة مقلدة [1]، أسهمت بشكل كبير في الحط من قيمة المرأة من خلال ترويج بعض النصوص وتأويلها في غير سياقها، والاعتقاد الراسخ بأنها معوجة “أصلا وفرعا” [2]، يجب الاحتراز من فتنتها ومنعها من ارتياد “مساجد الجمع والجماعات لأن ذلك مؤد إلى منكر يعظم خطره ويهيج شره؛ فيجب قطعه بما أمكن” [3]. وبعضهم لم يجد غضاضة من منع النساء الشابات من حضور مجالس الوعاظ خشية الفتنة “وسيما إن كان المسمع لهن شابا حسن الصوت طيب النغمة” [4].
واستنادا للقراءة السطحية لمجموعة من النصوص من مثيل قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله [5]، سرت النظرة المهينة للمرأة في الخطاب الفقهي النوازلي، معتبرا إياها عنصرا غير مكافئ للرجل وأقل شأنا منه مكانة وعقلا [6]، لذلك اعتبروا “تدمية المرأة على زوجها مائلة إلى الضعف، ولا يقام عليها القود بها لجواز ضربه لها للأدب لقوله تعالى: “واضربوهن”، وقد يأتي من الضرب ما يتصل بالموت فتسقط تدميتها، إذ قد يكون هذا مما أبيح له، إلا أن تكون قالت في تدميتها ضربني بسيف أو رمح أو سكين وبقي أثر الجرح شاهدا بذلك وتبين للشهود أنها لا يمكن الإنسان أن يفعلها بنفسه” [7]، وتكشف نوازل أخرى عن نساء “قتلن من غير موجب شرع” [8].
وعن اقتناع الفقهاء بجهل المرأة وسفهها ما تؤكده العديد من النوازل المنتصرة للرجل، دون اعتبار لحق المرأة أو إنصافها، من مثيل إفتاء أحدهم بقبول دعوى سفه زوجته التي أخذ أموالها غصبا؛ معللا رأيه “بجهالتهن فيما يرجع لصون الأموال وتنميتها، وأنهن لا يعرفن إلا سياسة البهائم، وتربية الأطفال، وصناعة الطعام” [9].
وعليه فإن تلك النظرة الدونية التي أسس لها الفقهاء، بناء على نصوص تم استقراؤها قراءة سطحية، لا ترقى في استكناه مغزاها وسياقها؛ انعكست بشكل تلقائي على عقلية المجتمع المغربي والإسلامي الذي تشبع بنفس التمثلات حول دونية المرأة.
في ظل هذا الواقع وبعيدا عما يشيد به بعضهم عن أدوار النخبة من النساء؛ باعتبار ما فرضه واقعهن الاجتماعي، نطرق أبواب الهامش الذي ظل مغيبا عن مؤرخي البلاط وإخبارييه، لنجول بين منعطفات تاريخ؛ رسمت المرأة المنسية حروفه بمداد من الألم والمعاناة.
وضعية المرأة القروية
إن لاذت الإسطوغرافيا الرسمية بالصمت عن وضعية المستضعفات من النساء، فإن الجنس الرحلي ومعه النوازلي يطفح بما يحتاج الحفر والاستنطاق الذكي وإعادة التحليل؛ لاستجلاء الصورة الحقيقية لما كانت عليه المرأة. وعطفا على ما وقفنا عليه في النصوص الآنفة؛ تشير أغلب الأجناس المصدرية أن المرأة البدوية كانت أهم مكون في الأسرة من ناحية الإنتاج، فهي إلى جانب عملها في البيت كانت تقوم بأشغال الزراعة والرعي خارجه [10]، فضلا عن حرصها على ترشيد وتدبير فاقتها المالية بنسج ملابس الأسرة، وصناعة الأواني الفخارية اللازمة [11]، بل وعلاوة على ذلك تقوم بأعمال الرجل من قبيل “بناء الفرن الطيني التقليدي لطهي الخبز وإعداد الأثافي لطهي الطعام، وفي بداية فصل الخريف، واستعدادا للتساقطات المطرية، تقوم النساء بإصلاح سقوف المنازل وذلك باستعمال الطين الذي يتميز بنفاذيته الضعيفة، ويقمن بتبليط الأرض، وصباغة الأسوار باستخدام التربة البيضاء” [12].
وعلى الرغم من مشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية، إلا أنها وكما تفصح عنه النوازل؛ ظلت تعاني من الحيف على جميع المستويات؛ نخص بالذكر هنا حقها في امتلاك ما تشارك به زوجها في إنتاجه، وحق امتلاك أجرة ما صنعت أيديها من غزل أو غيره، نتيجة سيطرة النظرة الذكورية التي تعتبر المرأة ناقصة عقل ودين [13]، ليست لها الأهلية في امتلاك الأموال، أو التصرف فيها [14]، وقد أدى هذا الوضع إلى تشرد مجموعة من الأسر بعد طلاق الزوجة أو ترملها.
وعليه وبناء على هذه الوضعية المزرية التي عاشتها المرأة المغربية، برز من أعلام الفقه التنويري من يشهد تراثه العلمي بحرصه الشديد على تصحيح ما شاب الذهنية المجتمعية حول العلاقة الزوجية، ودعوته إلى العودة بها للاستقرار والسكينة.
فتوى حق الزوجة في الكد والسعاية
علمنا هذا هو الفقيه “ابن عرضون” الذي عني بقضية المرأة فأفرد لها مؤلفات خاصة، حدد فيها “مالها من حقوق وما عليها من واجبات فيما يخصها مع خالقها أولا، ومع أسرتها ثانيا، ومع مجتمعها ثالثا، كما أن فتاويه لم تخل من الحديث عنها وعن قضاياها” [15]، لذلك وعلى ضوء ما عرضنا له آنفا حول الوضعية المزرية التي عانت ويلاتها المرأة من غصب لحقوقها؛ كان لفقيهنا موقف متميز دعا فيه إلى حفظ حقها في الجهد الذي تبذله في بيت زوجها؛ بضرورة مناصفتها له في الثروة المشتركة بينهما؛ إذا ما حصل الطلاق أو الوفاة من خلال فتواه؛ “حق المطلقة والأرملة في الكد والسعاية”، أو ما يعرف بحق الشقا [16]، حينما سئل “عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال من الحصاد والدراس وغيرها، فهل لهن حق في الزرع بعد وفاة الزوج لأجل خدمتهن أو ليس لهن إلا الميراث؟ فأجاب: الذي أفتى به القوري مفتي الحضرة الفاسية أن الزرع يقسم على رؤوس ما نتج عن خدمتهم، زاد عليه مفتي البلاد الغمارية جدنا للأم أبي القاسم بن خجو على قدر خدمتهم، وبحسبها من اتفاقهم أو تفاوتهم، وزدت أنا لله عبد بعد مراعاة الأرض والبقر والآلة، فإن كانوا متساويين فيها أيضا فلا كلام، وإن كانت لواحد حسب له ذلك” [17].
وهي الفتوى التي أسالت مداد الفقهاء في نقاش اختلف بين مؤيد ومعارض، تشير المصادر إلى اعتراض أهل فاس بوجه خاص، الذين قادتهم الأقدار بعد ذلك إلى زيارة ضريح عبد السلام بن مشيش؛ “دفين جبل العلم، ومروا في رحلتهم بشفشاون التي كان ابن عرضون قاضيا بها؛ لملاقاته ومناقشته في فتواه المستحدثة، وسألوه عن القضية، فما أجابهم بشيء، بل طلب منهم الانتظار، وبينما هم كذلك، إذ مر فوج من النساء، وهن حاملات أثقالا على ظهورهن – كعادتهن – من حطب وأنواع أخرى من الأثقال، فقال لهم: ما رأيكم في هؤلاء النساء؟ فتعجب العلماء من ذلك، وأذعنوا لرأيه، وأيدوا حكمه، وأدركوا وجاهة فتواه وإصابتها روح العدل” [18]. فمن هو القاضي ابن عرضون؟
التعريف بابن عرضون
هو القاضي الفقيه العالم أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف بن عمر بن يحيى المعروف والمشهور بابن عَرضون الزَّجَلي [19]، وُلد سنة 974ه بقرية تلمبوط شمال مدينة شفشاون، ونشأ في أحضان أسرة علمية. والده الفقيه العالم أبو علي الحسن بن يوسف، وأخوه القاضي أبو عبد الله محمد، وجده لأمه العلامة بن خجو [20].
أخذ ابن عَرضون مبادئ العلوم الأولى بجبال غمارة، عن والده الذي حفظ على يديه القرآن الكريم ودرسه مبادئ النحو، ثم انتقل إلى فاس ليلتحق بحلقات العلم بجامع القرويين، وأخذ العلم من كبار أعلامه من مثيل: أبو عبد الله محمد بن مجبر المساري وأبو نعيم الجنوي وأبو العباس المنجور، وغيرهم من أعلام المغرب في ذلك الوقت، حتى صار مَضرب المثل في العلم والورع والتقوى. واشتغل بالقضاء بشفشاون ثم بفاس [21].
من أشهر مؤلفاته؛ اللَّائق لمعلم الوثائق [22]، ومقنع المحتاج في آداب الأزواج وتربية الولدان [23]، ورسالة آداب الصحبة حقوقها وفوائدها [24]، ورسالة التودد والتحبب، وحدائق الأنوار وجلاء القلوب والأبصار في الصلاة والسلام على النبي ﷺ وعلى آله وأصحابه الأبرار [25]، وكتاب في شرح أسماء الله الحسنى، وغير ذلك.
هذه الآثار العلمية تعبر عن مذهبه الإصلاحي الذي اهتم بخدمة قضايا مجتمعه؛ عبر النفاذ إلى قلبه ولبنته الأولى؛ “الأسرة”، في محاولة رد الاعتبار للمرأة البدوية والحرص على إعادة الحياة لبيت الزوجية.
في ختام هذه الإطلالة السريعة، يمكن القول إن الصور المتناقضة لأحوال المرأة بين مظاهر التضييق والتهميش ومحاولات الانتصار لحقوقها ورد الاعتبار لكرامتها، تكشف عن حجم ما آلت إليه حالة الاجتهاد الفقهي من التقليد والتشدد؛ بسبب تردي أحوال الأمة عامة؛ نتيجة فساد الحكم واتساع الفجوة بين تحديات واقعها المتذبذب وسمو القيم الإسلامية، التي دعت إلى تكريم المرأة أما وبنتا وزوجة وأختا.
الهوامش:
[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، ط 1، 1996، الدار البيضاء، ج1، ص25.
[2] إبن الحاج، المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه إلى بعض البدع والعوائد التي انحلت وبيان شناعتها وقبحها، المطبعة العامرة الشريفة، 1320ه، ج1، ص159.
[3] العقباني، تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المنكر، تحقيق علي الشنوفي، المعهد الثقافي الفرنسي، 1967، دمشق، ص30.
[4] ياسر الهلالي، نظرة المجتمع للمرأة في مغرب القرن 14-15م، مجلة أمل، العدد 13-14، السنة الخامسة، 1998، ص 80.
[5] سورة النساء، الآية 34.
[6] الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي، وزارة الأوقاف الشؤون الإسلامية الرباط ودار الغرب الإسلامي بيروت، 1401ه، 1981م، ج11، ص42.
[7] المصدر نفسه، ج 2، صص 289-290.
[8] أبو الحسن العلمي، النوازل، تحقيق المجلس العلمي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1406هــ-1986م، فاس، ج 3، صص 117-120.
[9] الحسن العبادي، فقه النوازل في سوس، منشورات كلية الشريعة، رسائل وأطروحات جامعية -2-، ط1، 1420ه-1999م، أكادير، ص 174.
[10] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت، ط 2، 1983، ج1، ص331.
[11] شارل أندري جوليان، تاريخ إفريقيا الشمالية، تعريب محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، 1969، ص77.
[12] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، م س، ص98. (أثافي جمع أثفية: أحجار ثلاثة توضع عليها القدر فوق الموقد).
[13] ابن الحاج، المدخل.. م س، ص 146..
[14] الحسن العبادي، فقه النوازل في سوس، م س، ص 174.
[15] عمر الجيدي، المرأة في تفكير ابن عرضون، مجلة المناهل، العدد 44، السنة التاسعة عشرة، محرم 1415- يونيو 1994، ص 129.
[16] الهراس المختار، المرأة والملكية في أنجرة إبان فترة الاستعمار، سلسلة مقاربات: نساء قرويات، نر الفنك، مطبعة النجاح الجديدة، 1996، الدار البيضاء، صص15-16.
[17] أبوالحسن العلمي، النوازل، م س، ج1، ص 239.
[18] عمر الجيدي، ابن عرضون الكبير: حياته وأثاره آراؤه وفقهه، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 1407ه-1987م، الدار البيضاء، ص 199.
[19] ابن القاضي، جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، 1973، الرباط، ج1، ص 160.
[20] محمد بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، مطبعة النجاح الجديدة، 2004، البيضاء، ج 2، ص 302.
[21] عبد القادر العافية، الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية بشفشاون وأحوازها، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،1982، صص 334-335.
[22] القضاء المغربي وخواصه، مجلة دعوة الحق، العدد 224، غشت- شتنبر 1982.
[23] مخطوط متوفر بالمكتبات.
[24] عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني، 1961، بيروت، ج1، ص 257.
[25] عمر الجيدي، ابن عرضون الكبير: حياته وأثاره آراؤه وفقهه، م. س، ص 9.