إحياء قيم البذل والعطاء في الأسرة المسلمة

Cover Image for إحياء قيم البذل والعطاء في الأسرة المسلمة
نشر بتاريخ

يهل علينا رمضان من كل سنة مجدِّدا في الأمة معاني العطاء والجود والإيثار، حيث تتجسد فيه القيم الأخلاقية الإنسانية في أرقى صورها ومعانيها، فبروحانيته وأنواره الربانية يكون رمضان فرصة لجبر الخواطر وجمع القلوب على الله عز وجل، ولترميم ما انصدع من بناء الأسر المسلمة، وإحياءً لما غاب من قيمها وأخلاقها النبيلة، وتمتينا لأواصر القرابة والمحبة بين أفرادها.

إن الأسرة هي منشأ القيم والمحضن الأول للأخلاق، وهي النواة الأم التي تتأسس عليها المجتمعات الإنسانية، ولعل الأسرة اليوم تشهد تحولات كبيرة وتواجه تحديات حقيقية على مستويات عدة، خصوصا مع التطور المعلوماتي والرقمي، فبالرغم من أن التكنولوجيا الحديثة استطاعت تقديم خدمات جليلة للإنسانية وتحقيق التواصل بين أفراد المجتمع الواحد والمجتمعات الإنسانية عموما، إلا أنها في المقابل فرضت نوعا من العزلة والفردانية والأنانية بين الناس، أدى إلى شيوع بعض القيم البديلة البئيسة التي تتمثل في الشح والأنانية والأثرة والبخل، فأضعفت روح الأسرة وأحدثت فجوة في العلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية، وغيبت مجموعة من القيم التي كانت ولاتزال دعامات أساسية تزيد من تآلف وتراحم الأسر وتعاونها وامتداد خيرها إلى محيطها الكبير، فغلب على أفراد الأسرة -وخصوصا الأبناء- إيثار المصالح الشخصية على حساب مصالح باقي الأسرة، واستثقال تحمل بعض المسؤوليات ومشاركة أعباء البيت من خدمة وتقديم عون وإيثار للمصالح الجماعية، حتى غابت روح التطوع والسعي لقضاء حاجات الأهل والأقارب والأحباب.

فإذن كيف نذكي روح البذل والإيثار والعطاء في أبنائنا في ظل الإكراهات التي تواجهها أسرنا اليوم؟ وكيف نعيد لهذه المعاني الجليلة قوتها وفاعليتها من خلال المنهج النبوي؟

لقد أشاد الإسلام بقيم العطاء والجود والإيثار وحث عليها في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وندب إليها، وقد كان عليه الصلاة والسلام قدوة ومثالا في ذلك، جسد هذه القيم في تربيته النبوية لأصحابه وأهل بيته، فكان هذا الجود والكرم في سائر أيامه، ولكنه في رمضان كان أجود ما يكون، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة” 1، فكان ﷺ أبلغ الناس في الإنفاق والعطاء.   

إن معاني العطاء والجود والإيثار والصدقة تدخل ضمن خصلة البذل، و”معناها لغةً إعطاء الشيء والجود به استهانة به في مقابل الفضل المرجو. يقال ابتذل الشيء احتقره. ويدخل في هذه الخصلة ما أمر الله به من الإنفاق، ويدخل فيها الجهاد بالمال وهو مقدمة للجهاد بالنفس” 2، والعطاء وبذل المال والنفس يبدأ من الأسرة، ففيها يتعلم الأبناء حب الصدقة وإيثار الغير على النفس. وهذه أسرة أنصارية جسدت هذا الخلق في أرقى صوره، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رجلا أتى النبي ﷺ، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله ﷺ: من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح، غدا إلى رسول الله ﷺ، فقال: ضحك الله الليلة، أو: عجب من فعالكما، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9)” 3. أعطت هذه الأسرة درسا في الإيثار، فبالرغم من قلة ذات اليد، إلا أنها جادت وأكرمت وأقرت الضيف، وهكذا ينبغي أن يتربى الأبناء على العطاء اليومي؛ أولا فيما بينهم، وثانيا فيما بينهم وبين الناس.

إن من معاني الجود والعطاء بذل المال، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (البقرة: 261)، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “قال الله: أَنْفِق يا ابن آدم أُنْفِق عليك” 4، فبذل المال من أعظم أسباب البركة في الرزق ومضاعفة الثواب والأجر، وهو تطهير للنفس من الشح والبخل والأثرة والأنانية المقيتة، وهو تزكية وترق لها في مدارج الكمال والسلوك إلى الله تعالى، قال عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة: 103).

وبذل المال خصلة يتعلمها الأبناء في محضن الأسرة بالحال قبل المقال، إذ ينبغي للآباء أن ينفقوا ويتصدقوا على أعين أبنائهم تربية لهم على هذه الخصلة العظيمة، حتى تصبح سلوكا سهلا على النفس، وهكذا فالدعوة بالحال أوقع في النفس وأدعى للاستجابة من الدعوة بالمقال، ثم بعد ذلك يدفع الآباء بأبنائهم نحو التصدق من مالهم الخاص وإن قلّ، ومما يحبون من أشيائهم وأغراضهم الخاصة، وأن يبينوا لهم أن هذا الإنفاق لن ينقص من أموالهم شيئا، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، فالإنفاق حفظ للمال وإنماء له.

والعطاء الذي ينبغي أن يتعلمه الأبناء لا يقتصر على المال فحسب، بل يتعداه إلى بذل الوقت والجهد والخلق الحسن. فمن معاني الجود والعطاء بذل الجهد والسعي في قضاء حوائج الناس عونا لهم على نوائب الدهر وملماته، وهي عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل وتوجب له محبته، في الحديث: “عن عمرو بن دينار، عن عمر، أن رجلا، جاء إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله، وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله ﷺ: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا في مسجد المدينة، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام” 5. إن هذا البلاغ النبوي يطلعنا على أمر في غاية الأهمية، وهو أن التكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات أمر واجب، ولكن إذا كانت بمعزل عن الأخلاق من خدمة وبذل للوسع والجهد في إسعاد الناس وتخفيف آلامهم والتهمم بأمورهم وتفقد أحوالهم، والصبر على آذاهم تبقى قاصرة عن تحقيق الغايات التي شرعت من أجلها وهي ابتغاء وجه الله تعالى، كما أن هذه الأخلاق هي طاعات يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، فينبغي أن تسري روحها بين أفراد الأسرة أولا، إذ لا يحسن بالمرء أن يقوم على خدمة الآخرين وهو مع أقرب الناس إليه -والديه وإخوته- شحيح بوقته وجهده.

ولذلك ينبغي على الأبناء داخل أسرهم أن يبذلوا وقتهم وجهدهم في مد يد العون للوالدين خدمة وسخرة، بل ومسارعة ومنافسة مع إخوتهم والسبق إلى تلبية حاجات الوالدين، ثم مساعدة إخوتهم ومعاونتهم على واجبات البيت والدراسة واستفراغ وسعهم في كل مايمكن أن يخفف العبء ويحافظ على روح التعاون والتكافل والمحبة داخل الأسرة، ثم ينبغي أن يعي كل فرد في هذه الأسرة أن له دورا لايمكن أن يقوم به غيره، وأن يعلم أن تقصيره في أداء أدواره واستثقاله عنها له انعكاس سلبي على كيان الأسرة وانسجامها ولحمتها، ثم ليعلم أن أدواره إن لم يقم بها هو فإن فردا آخر سيتحملها عنه وتشق عليه، وهذا التنصل من المسؤوليات وإلقاؤها على الأفراد الآخرين يفقد روح المبادرة والتطوع والإيثار داخل الأسرة، ويبدلها بقيم الاتكالية والأنانية والشح، ويضعف قيم المحبة والمودة والرحمة. 

ومن معاني الجود والعطاء كذلك بذل حُسن الخُلق: يقول رسول الله ﷺ: “إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق” 6، وكما ورد في الحديث فإن “البر حسن الخلق” 7، وهو “عطاء طَوْعي، وإيتاء للمال والخدمة لوجه الله، وفتوَّة وإيثار، وأخلاق كبار” 8. وحسن الخلق إن لم يكن أصيلا في الإنسان فالواجب اكتسابه بالدربة والمجالسة والصحبة، واكتساب الآباء والأمهات له ينتقل إلى الأبناء بالمعاشرة والقدوة، وأبواب البر كثيرة كما وضحها الإمام عبد السلام ياسين من خلال حديث نبوي شريف، فهي تجمع “بر الوالدين، بر الأولاد والأقرباء، بر اليتيم، بر الزوجة، السعي على الأرملة والمسكين، بر الشيوخ والعجائز، بر العطية الكبيرة والهدية الرمزية، بر البشاشة، بر حسن الخلق، بر إماطة الأذى عن الطريق. وإنه على كل سُلامى من الناس صدقة، العدل بين اثنين صدقة، وتُعين الرجل في شأن خاص صدقة، وترفع معه متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة. هذه آفاق البر الفسيحة وذُراه العالية” 9.

فهذه  الأخلاق الحسنة هي عطايا ومكرمات يتعدى نفعها وصلاحها الفرد إلى الأسرة فالمجتمع، في الدنيا والآخرة، وترسيخها في النشء يحتاج إلى صبر وتدرج وإلى قدوة عملية، ولنا في سير الأنبياء والصحابة والصالحين الأسوة والقدوة، ينبغي فقط على الآباء والأمهات أن يحسنوا وصل أبنائهم بها للانتفاع بما في سيرهم من فضائل إيمانية وأخلاقية وسلوكية، ولأنه في كنف الأسرة يتشرب الأبناء كل الفضائل والمحامد، فيكون الآباء قدوة لأبنائهم كما كان النبي ﷺ قدوة لأهل بيته، كل ذلك تحقيقا للغاية الأسمى وهي طلب وجه الله تعالى والسعي إلى إعمار الأرض عمرانا أخويا يصل دنيا الإنسان بآخرته.


[1] صحيح البخاري، باب: أجود ما كان النبي ﷺ،  ج4، ص137، رقم: 3220.
[2] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، عبد السلام ياسين، ص215.
[3] صحيح البخاري، باب: قول الله عز وجل: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}، رقم: 3798.
[4] صحيح البخاري، باب: فضل النفقة على الأهل، ج7، ص80، رقم 5352.
[5] الروض الداني (المعجم الصغير)، أبو القاسم الطبراني، تحقيق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار – بيروت، عمان، الطبعة: الأولى، 1405 – 1985، ج2، ص106.
[6] مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق:  عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان – المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1412 – 1991، ج1، ص 471.
[7] صحيح مسلم، كتاب: الآداب، باب: تفسير البر والإثم، ج8، ص6، رقم 6608.
[8] الإحسان، عبد السلام ياسين، ج1، ص399.
[9] نفسه، ص395.