تعرفنا على بعض النماذج من سلوك الصحابيات وحظهن من الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في المداخلة الرئيسة “تلازم النداء والاستجابة: سلوك الصحابيات نموذجا”، وسمعنا كيف استجبن وكيف أسلمن وكيف هاجرن ونصرن، هذه المعرفة يجب أن تفضي بنا إلى اللب والمقصد، لكي نستيقظ ونعمل ونسارع ونتأسى ونستجيب، وإلا لن يعدو الأمر أن يكون نزهة فكرية.
فما العمل إذن؟
ما مهمتي أنا أمة الله في هذه الحياة؟
كيف أحيي نور الاستجابة في نفسي وفي من حولي؟
كيف أساهم في بناء أمة الاستجابة التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ” (آل عمران، 110)؟
بداية لا بد من اقتحام العقبة كما أمرني سبحانه وتعالى: “فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ” (البلد، 10)، وهناك عقبات:
* أولها: عقبة التكبر والأنانية المانعة من الاستسلام والطاعة والاستجابة لله، وما منع إبليس من السجود لسيدنا آدم عليه السلام والاستجابة لله إلا التكبر، قائلا: “أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” (الأعراف، 12).
* ثم عقبة ذهنية القطيع والانتظارية.
وفي هذا الصدد سأروي قصة رمزية كي نأخذ منها العبر والدروس؛ يروي الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله أنه كان له صديق عابد وأخبره ذات يوم أنه سيخرج طلبا للكسب والتجارة، وأثناء سفره صادف في طريقه قُبّرة عمياء، فقال في نفسه: كيف تعيش هذه القبرة؟ فإذا بقبرة مبصرة تأتيها بالطعام وتضعه في فمها، فقال: بما أن الله هو الرزاق فلا داعي للتجارة، فرجع إلى موطنه.. فلقيَه الفضيل وحكى له القصة، فقال له الإمام: كيف ترضى أن تكون القبرة العمياء ولا تسمو بك همتك لتكون القبرة المبصرة. صحيح أنه يجب أن نتوكل على الله، ولكن مع التوكل يجب الأخذ بالأسباب، فاليد العليا خير من اليد السفلى، والمساهمة في بناء الأمة ليست كالتقاعس والتخاذل.
* ثم عقبة العادات الجارفة والتقاليد والبيئة المثبطة، بحيث يصير المرء تابعا للوضع السائد؛ لا يميز بين الصواب والخطأ والمعروف والمنكر، ويرى أن ما عليه العامة هو الصواب.
إذن هي عقبات لا بد من اقتحامها.
ولا بد من بيئة صالحة محفزة على الاقتحام، ومن صحبة صالحة تتوب وتجدد التوبة في كل حين، وتعين على السير بخطى ثابتة لنيل رضى الله. وهي صحبة نتعلم منها محبة الله لأنها أساس كل خير، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم محبة الناس أجمعين، ثم تحبيب الله للناس بإظهار نعمه ورحمته وفضله وعطائه. فما أحوج الإنسانية لمن يبشرها وييسر لها أمر دينها.
وكما تدل الصحبة الصالحة على الخير فهي تفتح السمع والبصر والقلب على الطاعة والاستجابة لأنوار الوحي، فتحيى القلوب بذكر الله وتصبح أكثر همة وعزيمة، وتدخل في زمرة الصادقين الذين قال الله فيهم: “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ” (الحجرات، 15).
فكيف نساهم جميعا في بناء مجتمع الاستجابة؟
ما مهمتي أنا في الحياة وسط هذه الصحبة الصالحة؟
ما وظيفتي؟ ما دوري؟
ما الهدف من خلقي؟
إننا مدعوون لكسب الفضائل ومقاومة الرذائل وامتلاك القوة الإيمانية الإرادية لنترقى صعدا في معارج الكمالات الروحية والعلمية والخلقية والجهادية.
يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “القوة الذاتية في خوض معركة الإسلام ضد الجاهلية هي العامل الحاسم. لأنها الشرط في تنزل نصر الله. أقصد بالقوة الذاتية قوة الإيمان الفاعلة المعزَّزَة بأخلاق الإيمان وإرادة الإيمان المتوجهة الوجهة المرضية عند الله، الواعية بصعوبة الطريق السعادي ووعورتها وعقباتها، السخية بالمال والنفس تبذلهما ثمنا بخسا لجزاء الغرفة والتحية والسلام والنظر إلى وجه الله الكريم” (1).
ثم بعد امتلاك القوة الإيمانية الإرادية، ومعرفة أنني خلقت فقط لعبادة الله: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات، 56) ثم بعد ذلك سألقى الله، فهل ستنقطع عبادتي وينقطع عملي؟ يجيبنا عن هذه الأسئلة الرسول الكريم، ويبشر الإنسان المؤمن بقوله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”(رواه مسلم).
والولد الصالح صحيح هو خلق الله ولكنه عملي أنا، وأنا المسؤولة عنه أمام الله سبحانه وتعالى، فمهمتي ووظيفتي الأساسية، والتي لها الأولوية في الحياة هي أن أخلف ذرية صالحة تساهم في بناء مجتمع الاستجابة وتبشرني في آخرتي بأن عملي ممتد وموصول لا مفصول، وله علي في هذه الحياة الدنيا توظيف وتسخير كل إمكانياتي من علم نافع وأخلاق حميدة ورحمة ولين وبذل وتضحية من أجل تربيته تربية صالحة. والذرية الصالحة ليس المقصود بها أبناءنا الطينيين فقط ولكن أبناء المجتمع كله.
ثم بعد بذل كل الإمكانيات نلجأ لباب الدعاء؛ باب الحنان المنان، باب المصلح ذو الحول والقوة، وحاشاه أن يخيب رجاءنا فيه، فهو القائل سبحانه: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ” (البقرة، 186).
نخلص مما سبق أن الهدف هو تنوير قلب الإنسان بعد أن منّ الله عليه بتوبة ويقظة وكشف عنه غمة الغفلة التي لا تزيده إلا حسرة، وتنوير عقله وتحرير إرادته حتى يصبح واعيا بواجباته نحو نفسه وأهله ومجتمعه فيساهم في الاستجابة الجماعية.
(1) تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، ج 1، ص 15، على موقع سراج.