مقدمة
الصحابة رضي الله عنهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوه وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم، حتى مدحهم الله في كتابه بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس. فازوا رضي الله عنهم بنور الصحبة والرؤية المباشرتين.
فهل لنا في تلك الصحبة النبوية من حظ؟ أم هل لنا في تلك الرؤية المباركة من نصيب؟
ذلك ما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إخوانه الذين يأتون من بعده.
حدثنا يحيى بن أيوب وسريج بن يونس وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعا عن إسماعيل بن جعفر قال بن أيوب حدثنا إسماعيل أخبرني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دُهمٍ ُبهمٍ ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا” 1.
فالحديث يؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إخوانا يأتون من بعده هم مؤمنون وليسوا بأنبياء، لأن النبوة به ختمت صلى الله عليه وسلم. فما صفاتهم حتى نكون منهم؟
قبل ذلك لنرجع إلى الحديث حتى نفهمه جيدا، النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، بماذا تذكرنا المقابر؟ لاشك أنها تذكرنا بالآخرة كما في الحديث، وكذلك تذكرنا بمن مضى من أجدادنا وسلفنا الصالح. ويعلمنا رسول الله الأدب مع الأموات بأن نسلم عليهم، السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. بعد ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه الذين يمثلون الحاضر بين يديه، ليخبرهم عن قوم يأتون من بعده في المستقبل هم إخوانه. فيكون النبي صلى الله عليه وسلم في لحظة واحدة قد جمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، على أن يؤكد لنا أن هذا الدين واحد من لدن آدم إلى قيام الساعة، له أصل في الماضي وجذع في الحاضر وفروع في المستقبل لا ينقطع نوره ولا يجف معينه أبدا، بل هو جيل سابق يصل بجيل لاحق عن طريق الصحبة والتلمذة والمخاللة.
صفات الإخوان
إن للإخوان صفاتا تميزهم عن غيرهم، وتجعلهم في مقدمة صفوف من ينصر الله بهم هذا الدين حتى لا يزعم أحد أنه منهم لمجرد دعوى بل الأمر برهان صدق وصدق عمل. كما كان للصحابة رضوان الله عليهم ما يميزهم في زمانهم ومكانهم عن القاعدين والأعراب والمنافقين. ونذكر من هذه الصفات:
1- الإيمان به صلى الله عليه وسلم غيبا
أخرج الدارمي أن أبا محيريز قال: قلت لأبي جمعة حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم، أحدثك حديثا جيدا، تغذينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله هل أحد خيرمنا أسلمنا معك وجاهدنا معك؟. قال: “نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني” 2.
أن تؤمن برسول الله وأنت تراه درجة والأعظم منه أن تؤمن به وأنت لم تره، وأن تصدق بما جاء به وأنت لم تره، وأن تعمل بما جاء به وأنت لم تره، ذلك أعظم درجة عند الله تعالى وأعظم منزلة في الإيمان.
أخرج أبو يعلى عن عمر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “”أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيمانا؟”. قالوا: يا رسول الله الملائكة. قال: “هم كذلك، ويحق ذلك لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم” قالوا: يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة. قال:” هم كذلك، ويحق لهم ذلك، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم” قال: قلنا فمن هم يا رسول الله؟ قال: “أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني، ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا””.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:“طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات”.
2- محبته صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من أشد أمتي لي حباً، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله” 3.
كان الصحابة يحبون رسول الله حبا شديدا، كان له صلى الله عليه وسلم في قلوبهم هيبة وإجلالا. لم يحسبوه رجلا بلغ الرسالة ومضى، بل رسول الله وحبيب الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير. وكان يشترك في هذه المحبة القاضية الرجال والنساء الصغار والكبار على السواء. يطول بنا الوقت إن نحن حاولنا استعراض نماذج الصحابة والصحابيات في محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك ندل على كتب حياة الصحابة ففيهم الغناء.
إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا حبهم لنبيهم وحبيبهم محمد حب شديد يوم يود أحدهم أن يبذل أهله وماله في سبيل نصرة دين محمد والدفاع عن أمته والصبر على منهاجه.
3- الصبر على المنهاج النبوي
عن أبي أمامة الشعباني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. زاد ابو داود: قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟. قال: بل أجر خمسين رجلا منكم” 4.
الصبر على غربة الإسلام ورسول الله حاضر بشخصه الكريم لهو أعظم ثباتا للقلوب على الإيمان، وأعظم تثبيتا للأقدام على المنهاج النبوي. ولكن الأعظم منه الصبر على غربة الإسلام وهو غائب صلى الله عليه وسلم.
أخرج الدارمي أن أبا محيريز قال: قلت لأبي جمعة حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم، أحدثك حديثا جيدا، تغذينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك؟. قال: “نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني”. وروا أيضا سيدنا رزين رضي الله عنه. وفي رواية أخرى، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجرا، آمنا بك واتبعناك. قال: “ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم، يأتيكم الوحي من السماء، بلى قوم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا”.
4- اتباعه بإحسان
قال الله عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
إتباع بإحسان بما يعنيه من إحسان في العبادة أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ومن إحسان في المعاملات، أن تعامل بالحسنى الوالدين والأقربين والجيران وجميع خلق الله. ومن إحسان في العمل وهو إتقانه وتطويره.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين في كتاب الإحسان [ج1: 17]: “مجموع هذه الدلالات يعطينا مواصفات المومن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، يعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء. علاقته بربه تكون إحسانية إن حافظ على ذكره لا يفتر عن مراقبته وخشيته ورجائه ودعائه ومناجاته. بهذا الإحسان في عبادة ربه يطيب قلبه وتجمل أخلاقه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رحمة يعم العالم الأقرب فالأقرب”.
والإحسان أيضا أعلى درجة في الدين فوق الإسلام والإيمان، لا إيمان بلا إسلام، ولا إحسان بلا إيمان.
5- سند الصحبة
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يأتي على الناس زمان، يغزو فئام من الناس. فيقال: لهم فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم”.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني”؛ قال طلحة فقد رأيت جابر بن عبد الله. وقال موسى وقد رأيت طلحة. قال يحيى وقال لي موسى وقد رأيتني ونحن نرجو الله. رواه الترمذي.
فهذه الأحاديث تثبت لنا أن لرسول الله إخوان يأتون من بعده لهم فضل بما آمنوا به ولم يروه ولهم فضل بما أحبوه بحب الله تعالى، ولهم فضل بما صبروا عليه من غربة الإسلام، ولهم فضل الصحبة ببركة من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين في كتاب المنهاج النبوي: “وإنما ينفع الله عز وجل المؤمن الصادق الجاد في الإقبال على ربه ما ينفعه بصحبة رجل صالح، ولي مرشد، يقيضه له، ويقذف في قلبه حبه، ومتى كان المصحوب وليا لله حقا والصاحب صادقا في طلبه وجه الله ظهرت ثمرة الصحبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال فيه الترمذي: حديث حسن: “الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”، والآيات والأحاديث المشيرة إلى الصحبة والحاثة عليها كثير، وكل تاريخ الإيمان يشهد بأن قلب الداعي إلى الله على بصيرة، نبيا كان أو وليا، وهو النبع الروحي الذي اغترفت منه أجيال الصالحين بالصحبة، والملازمة، والمحبة، والتلمذة، والمخاللة. وعلى قدر المصحوب إيمانا وإحسانا وولاية ينتفع الصاحب. ومن المؤمنين من يرفع الله همته لطلب معرفة ربه والوصول إليه مع الذين أنعم الله عليهم، فمن كتب الله سبحانه له سابقة خير يسره لصحبة دليل رفيق، ولي مرشد”.
6- دعاء الرابطة
في الحديث الذي في سنن أبي داود قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه”.
لا نستطيع إدراك عظيم الخير الذي أسداه إلينا من سبقنا بالإيمان، ولا نستطيع تأدية ثمنه، فهم الجسر الذي عبْرهم وصلنا ما وصلنا من ميراث النبوة إيمانا وعلما وعملا وسلوكا وجهادا. ولما عز علينا القيام بتأدية ثمنه علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعويض ذلك بالدعاء. دعاء نرد به الجميل وفي نفس الوقت يربطنا بموكبهم النوراني الجهادي. يقول الله عزوجل يعلمنا هذا الدعاء: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوفٌ رحيم.
أخرج أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء، ينتظر دعوة من ولد، أو والد، أو أم، أو أخ، أو قريب”. وإنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء من الأنوار مثل الجبال.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين في كتاب المنهاج النبوي: “ينبغي لكل مؤمن -والأفضل وقت السحر عندما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل-أن يفتح دعاءه الرابط بالفاتحة ثم يستغفر الله لذنبه، ويسأله لنفسه ووالديه وأهله وولده وذوي رحمه خير الدنيا والآخرة، ويصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنبياء الله ورسله. ثم على الخلفاء الراشدين والصحابة والأزواج والذرية. ثم على التابعين وصالحي الأمة وأئمتها. ثم يتلو معمما الدعاء: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رؤوف رحيم ثم على المؤمنين المجاهدين في عصرنا ويعرض على الله حوبتنا ويستفتح للمجاهدين. ثم يخصص بالدعاء من يربطه بهم رباط الجهاد ويذكر الأسماء. ثم يسأل الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة والمغفرة والنصر وخير الدنيا والآخرة. ويتوجه في دعائه هذا لمستقبل الإسلام والخلافة والظهور على الأعداء. بهذا يستشعر المؤمن انتماءه إلى الموكب النوراني -موكب الإيمان والجهاد- من لدن آدم إلى يوم القيامة فيدخل في بركة أمة الخير التي تولاها الله. ويزداد صلة إيمانية وصحبة بمن يدعوا لهم عن ظهر غيب من إخوته”.
علامتهم في الآخرة
“يأتون غرا محجلين من أثر الوضوء”.
الوضوء رمز الطهارة والصفاء والنقاء.
الوضوء سلاح المومن فلايحق للمؤمن أن يترك سلاحه في زمن كثر فيه أعداؤه.
الطهور شطر الإيمان، فإن حقق المؤمن النصف بالوضوء سهل عليه الإتيان بالنصف الآخر.
الوضوء شرط لصحة الصلاة، والصلاة عمود الدين، فإن عدم الوضوء غاب العمود الذي هو الصلاة فانهار الدين.
والحكمة من ذكر الوضوء أيضا أن مثل الجنة والحوض النبوي لا يدخلهما إلا من كان طاهرا نقيا قلبا وقالبا.
حفل الإكرام
“وأنا فرطكم على الحوض”، أي سيسبق رسول الله صلى عليه وسلم إلى حوضه ليستقبل الصحب والإخوان ويجمعهم في حفل شرب ماء الكوثر بعدما كانوا في الدنيا مفترقين زمانا ومكانا.
حدثنا سويد بن سعيد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري قال بن أبي عمر حدثنا مروان عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن حوضي أبعد من آيلة من عدن لهو أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه”، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: “نعم، لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء”.