قضية تعليم المرأة وعملها
يتحدد مطلب الإسلام للمرأة في ملئها لموقعها داخل جماعة المسلمين، حضورا ومشاركة. فلا يصح شرعا أن تكون المسلمة كَمًّا مهملا، بل يجب أن تتحول إلى عنصر فاعل ومؤثر. وسلاحها لتحقيق هذه الغاية العلم والمعرفة، إذ “العلم وطلبه واستكماله هو نور العقل الذي به تكون المؤمنة متحركة بين ساكنين، متوهجة بين باهِتين، مشمرة بين مترهلين، حية بين أموات. إن لم تكن تأسست بِنْيَتُها النفسية العقلية منذ صباها وطفولتها على قاعدة طلب العلم من المهد إلى اللحد، فمن كمال توبتها أن تنزع عن نفسها رذيلة الجهل، وعطالة الجهل، وأن تتحلى وتتجمل بالمعارف الشريفة” [1]. فالتعليم “الذي فرضه الله على كل مسلم والخوف من الله الذي يُربى عليه الإيمان هما الضمان لإخراجها من قوقعة الاستخفاف بها والجهل بحقوقها، والتخاذل عن الاحتجاج والدفاع عما أكسبها الشرع وحرمها الفقه المنحبس” [2].
ومما تجب الإشارة إليه في هذا الصدد أن مسألة تعليم المرأة المسلمة خضعت خلال فترة غير وجيزة من التاريخ الإسلامي للرؤية المتحجرة للفقه المنحبس التي تجد أحسن تعبير عنها في قول الشيخ تقي الدين الهلالي: “في تعليم الإناث وتربيتهن ثلاثة مذاهب متباينة. المذهب الأول: عدم تعليمهن أكثر من قراءة المصحف بدون فهم. قال أصحاب هذا المذهب: إنه أحسن المذاهب وأولاها بالصواب، وهو الذي وجدنا عليه آباءنا. وهم كانوا أحسن منا. وتعليم النساء يفسد أخلاقهن. فإن المرأة التي لا تقرأ ولا تكتب تكون بعيدة عن متناول شياطين الإنس. فإن القلم كما لا يخْفى أحد اللسانين. فبعدم معرفتها للقراءة والكتابة تأمَنُ شر اللسان الثاني فيتم لها الأمن. وكم رأينا من متعلمات لم يأتهن الشر إلا من قِبَل تعلمهن، وهذا في زمان الإسلام والعفاف والأَنفَة العربية، وأما في هذا الزمان فقد بلغ السيل الزُّبَى واتسع الخرق على الراقع. فإن معرفة الفتاة للقراءة توصل إلى ذهنها جميع ما يقع في الدنيا من الفساد والمخادنة. وتملأ فكرها بهواجس خبيثة كانت في عافية منها” [3]. وخلاصة هذا الموقف الفقهي أن “الحل المنطقي ليس التعليم والتربية، لكن السد والغلق والخنق والجدران والحبس” [4].
وعلى النقيض تماما من هذه الصورة القاتمة التي رسمها فقه الانحطاط سجل التاريخ أن المجتمع النبوي عرف صورا مغايرة لما آل إليه الوضع بعد ذلك. فالصحابيات والتابعيات ضربن أنصع الأمثلة في الحرص على طلب العلم وبذله والنفع به. وقد كان تصورهن للأمر ينبني على كون العلم “خير وكمال حرَص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنالة النساء المؤمنات حظهن منه. جئنه يوما فقلن: “غلَبَنا عليك الرجال! فاجعل لنا يوما من نفسك! فوعدهن يوما لَقِيهنَّ فيه فوعظهن وأمرهن”. الحديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه” [5].
ويحدد الأستاذ المرشد أنواع العلم الذي يجب أن تحرص المرأة المسلمة على النهل منه حيث يقول: “العلم علمان: علم بالله وبغيب الله وبرسل الله، وبكتب الله، وملائكة الله، وقدر الله، ومصير الإنسان في الدار الآخرة إلى الله. وعلم آخر عن كون الله وخلق الله، وما أودعه الله في أرضه وسمائه من أسرار، وما رتب سبحانه من أسباب، وما سخر سبحانه للإنسان تسخيرا طبيعيا، وما جعل لتسخيره أسبابا على الإنسان أن يُرادف التجارب ويجمع المعارف، ويَخترع المناهج ويصطنع الآلات لتوفيرها” [6].
وإذا كان سعي المرأة لاكتساب العلم والتحقق بالكمال العلمي والمعرفي ضرورة مُلحَّة ومطلبا مصيريا تتوقف عليه مكانتها الاجتماعية، فإن مسألة عملها لا تحظى بهذا القدر من الأهمية، ولكنها مع ذلك تعتبر قضية جدلية أسالت الكثير من المداد. فما هو الموقف الشرعي العملي من عمل المرأة؟ ما هو المجال العملي الذي يمكن أن توظف فيه المرأة مكاسبها العلمية والعملية وخبراتها في الحياة؟
من خلال استعراض مشاهد حية من سيرة الصحابيات وأمهات المؤمنين، استخلص الأستاذ المرشد أن “حبْس المرأة تعطيل، وتجهيلها تمكين لأعدى عدو ـ وهو الجهل ـ من مقوماتنا. على المدى القريب تسمع المرأة ويسمع الرجل نداء الضرورة الحياتية، ونداء استقلال المرأة الاقتصادي لتأمَنَ غوائل الرجل في مجتمع الكراهية الذي كادت تنفصم فيه عُرَا التكامل والتراحم والتلاحم بين ذوي القربى والنسب والدين” [7]. بل يعتبر أن بناء المستقبل الإسلامي يقتضي “أن نهيِّئ البيئة المناسبة، ونبرمج التربية الملائمة لتضطلع المرأة المسلمة بما يكلفها به نداء الضرورات الكسبية، وما يدعوها إليه نداء سعادتها الأخروية، مندمجاً كل ذلك متكاملا. والنموذج الصحابي هو القبلة لا العفة الوقائية العاطلة” [8].
ويؤكد الإمام “ياسين” أحقية المرأة في الاستفادة مما ضمنه لها الشرع الإسلامي وخاطبها بقوله: “لكِ ضمانٌ من الشريعة في حق كرامتك الإنسانية، وحقك في التصرف في أموالك، وحقك في العمل والكسب إن ألجأتك الضرورة. لكِ من الشريعة كل الحقوق اللازمة لأداء مهمتك الاجتماعية الأساسية” [9]. ثم يوضح سبب اختلاف الأحكام الشرعية بين الجنسين بقوله: “ما نقص أو زاد من أحكام خصت الرجل أو استثنت المرأة فإنما هو توزيع عمل وتخصص. ليس ذلك مهانةً على الإسلام ولا إهانة منه” [10].
ويحدد الأستاذ مجالا حيويا يطالب المرأة أن توظف فيه علمها وخبراتها: “هنالك مجال لجهاد المؤمنات يتعين عليهن المزاحمة فيه. ألا وهو مجال التعليم… في جامعاتنا مسارح للعراك الفكري ومداهمة الثقافة المادية الإلحادية في عقر دارها… على المؤمنات اللاتي حباهن الله بالذهن الوقاد والصبر على التعلم وعلى متابعة التعلم من المهد إلى اللحد أن يتخصصن في أداء الفرض الكفائي في التعليم العام بما لا يتناقض مع فرضهن العيني في تربية بناتهن وأبنائهن في البيت” [11].
[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الطبعة الأولى، 1996، ج 2، ص 173.
[2] نفسه.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
[5] نفسه، ص 70.
[6] نفسه، ص 66.
[7] نفسه، ج 1، ص 102.
[8] نفسه.
[9] نفسه، ص 215.
[10] نفسه.
[11] نفسه، ج 2، ص 68.
من كتاب “قراءات في الفكر المنهاجي”، للدكتور رشدي بويبري، الطبعة الأولى، 2021، صص 89 – 95.