إفريقيا وعدوى الانقلابات

Cover Image for إفريقيا وعدوى الانقلابات
نشر بتاريخ

حدث هذا اليوم (30 غشت 2023) انقلاب عسكري جديد في إفريقيا، وذلك بعد أيام فقط من الانقلاب العسكري في النيجر، هذه المرة في الغابون، ليكون هو ثامن انقلاب عسكري في إفريقيا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بعد انقلابين متتاليين في مالي في غشت 2020 وماي 2021، وانقلاب في تشاد في أبريل 2021، وغينيا في شتنبر 2021، والسودان في أكتوبر 2021، وبوركينافاسو في يناير 2022، ناهيك عن العديد من المحاولات الانقلابية الفاشلة.

لقد شكلت إفريقيا مرتع الانقلابات والانقلابات المضادة، وتظهر اليوم موجة جديدة من هذه الانقلابات لتسد قوس الاستقرار النسبي الذي عرفته إفريقيا لفترة قصيرة، وليتأكد أن ما أعلنه الاتحاد الإفريقي في ميثاقه التأسيسي سنة 2000 وفي الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم سنة 2007 وغير ذلك من الوثائق لايجدي نفعا، ولعل من أسباب ذلك ما أبداه الاتحاد الإفريقي ولأكثر من مرة من تعامل متساهل مع الانقلابيين وإعادة الترحيب بهم تحت ضغوط دولية وإقليمية.

فالأفعال تنسف ما تُجمع عليه القمم من تصريحات وما تتضمنه المواثيق من كلمات كبيرة. وكما يقول المثال الإنجليزي: Actions speak louder than words، الأفعال تتكلم أعلى صوتا من الكلمات.

هناك بعض القواسم المشتركة بين الدول التي عرفت الانقلابات الأخيرة، منها الفساد الكبير سياسيا واقتصاديا وإداريا، وسوء توزيع الثروة، وانتشار الفقر، والإقصاء الاجتماعي بمختلف أشكاله، وتجتمع أغلب هذه الدول في كونها كانت مستعمرات فرنسية وماتزال تشكل لعقود حديقة خلفية لفرنسا ولأطماعها.

ومما يميز الانقلاب الأخير، أنه حدث في الغابون التي تعد من أغنى الدول الإفريقية من حيث ثرواتها الطبيعية ومعادنها، خاصة النفط والمنغنيز، لكن لا يستفيد من هذا الغنى إلا العائلة الحاكمة التي تعض على الحكم منذ سنة 1967 ومحيطها القريب والبعيد. والبعيد يتمثل أساسا في الحاكمين اقتصاديا وسياسيا في فرنسا. فعدد السكان لا يتجاوز مليونين ونصف نسمة، ومع ذلك فإن فئة عريضة من الغابونيين لا تستفيد من حقها في الثروة وتعاني الفقرو الهشاشة. ومما يميزه أيضا أنه حدث بعد إعلان الرئيس بونغو فائزا في انتخابات 26 غشت 2023 لولاية ثالثة، وهو الذي حكم البلاد منذ سنة 2009، وقد لقيت هذه الانتخابات تشكيكا واعتراضا من المعارضة، كما عرفت انتقادا من المراقبين، الأمر الذي مكن المنقلبين من يافطة لتبرير انقلابهم، وجعله يحظى بالقابلية لدى بعض الغابونيين. والمفارقة التي تتكرر أنه في الوقت الذي طعن فيه المعنيون بالانتخابات في مجريات العملية الانتخابية تم فيه الترحيب بنتائج الانتخابات من قبل دول “ديمقراطية”، لا لشيء إلا لأن الفائز فيها من حلفائها.

هذا الانقلاب الجديد سيزيد من أزمة فرنسا في إفريقيا، وسيشكل اختبارا حقيقيا لما حاول ماكرون أن يظهره في خطابه الطويل قبل يومين من صلابة اتجاه الانقلاب في النيجر، لقد تحدث ماكرون عن رفض مطلق لمغادرة سفير فرنسا للنيجر وعدم الاستجابة للقادة العسكريين، لكون ذلك يشكل رسالة سلبية إلى حلفاء فرنسا في إفريقيا، فيا ترى كيف يكون الموقف الآن بعد أن سرت عدوى الانقلاب إلى الغابون التي يشكل حكمها أحد أهم الحلفاء في إفريقيا، وتشكل خيراتها مجال الاستثمار والاستحواذ الفرنسي؟

لقد تم الانقلاب في النيجر والغابون في ظرفية تتميز بالانقسام الدولي، وبانشغال الدول الغربية باستحقاقاتها وأزماتها الداخيلة وبالحرب على أوكرانيا، هذه الحرب التي يبدو أنها أصبحت تشكل ثقلا على الحكام الغربيين أمام شعوبهم بالنظر إلى تكاليفها المالية في مقابل ارتفاع معدلات التضخم، وحتى منظمة الإكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا) التي يريدون الدفع بها لإيقاف ما يجري يبدو أنها منقسمة في الموقف ومتخوفة من التبعات.

قد لا تتوقف عدوى الانقلابات عند هذا الحد، وفي ذلك دلالة على استشراء الفساد وغياب الحكم الراشد، لكن التاريخ الطويل من الانقلابات في إفريقيا يؤكد أنها لا تؤسس للبناء، ولكنها تزيد في الخراب. ويبدو أن من المطالب الأولى لإيقاف النزيف تغيير النظرة إلى إفريقيا لينظر إليها باعتبارها شريكا وليس سوقا للاستغلال البشع، ولا نهاية لتناسل الانقلابات إلا بمحاصرة الفساد وترسيخ حكم المؤسسات وانتشار الوعي المدني. ودون تحقيق هذه المطالب والأماني أشواط من الكفاح والنضال، وإلى ذلك الحين يبدو أن قدر إفريقيا إحصاء موجات الاحتجاجات والانقلابات وليس موجات الديمقراطية.