جيراننا أقرب الناس منا سكنى، وأكثرهم لأعيننا رؤية، وأسرعهم إلينا إجابة حين نناديهم، يهرولون إلينا إذا أصابتنا النوائب، ويسعون بل ويبادرون في قضاء حوائجنا إذا تعسر علينا قضاؤها.
قد يغيب أحدنا عن رؤية أهله أياما، إن لم تكن أسابيع أو شهورا، ليبقى وجود جيران أتقياء تراهم أعيننا كل ساعة بديلا عن وجود أحبتنا ولو إلى حين، ليغدون بذلك صحابا، أو كأنهم من ذوي القربى.
أمرنا الرحمن بالإحسان إليهم بعد الإحسان إلى الوالدين حيث قال سبحانه: وَاعْبُدُواْ اُ۬للَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـٔاٗۖ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰناٗ وَبِذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْيَتَٰم۪يٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْج۪ارِ ذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْج۪ارِ اِ۬لْجُنُبِ وَالصَّٰحِبِ بِالْجَنۢبِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتَ اَيْمَٰنُكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاٗ فَخُوراًۖ [النساء، 36].
حتى جبريل عليه السلام أوصى حبيبنا المصطفى بالجار حتى حسبه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيورثه، لشدة حرصه على الإحسان إليه.
وكان حبيبنا أحرص الناس على حسن التعامل مع الجيران وإكرامه لهم، كما كان خير الناس في أهله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” 1. ويمكن للمتمعن أن يفهم هذا الارتباط بين الأمرين، حيث يأتي الإحسان للجيرة بعد الإحسان للأهل، فالأول يمنحنا أسرا متحابة متراحمة قوية، يؤسس الإسلام من خلالها أول لبنات بناء المجتمع المؤمن، بل وبناء الأمة القوية. والمحافظة على العلاقات الطيبة مع الجيران يعين على تعزيز متانة هذه الأسر، فهي وجه آخر لخلق محيط حامل للقيم، ومساهم في تقوية النسيج المجتمعي . لذا وجب الحرص على المبادرة إلى الإحسان إلى الجيران، بالصدقات والهدايا والكلام الطيب، والابتسامة في وجوههم، وهي من أهم الصدقات، إذ تزرع في النفوس الطمأنينة والإحساس بالألفة، وحتى شعورا بالاستقرار النفسي. هذا الاستقرار في العلاقات وجب المحافظة عليه ما أمكن، بالصبر وإفشاء السلام قولا وفعلا.
ولأن الأمر من الأهمية بمكان، نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان عمن يسيء لجيرانه فقال ثلاثا: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن” قيل: من يا رسول الله؟ قال: “من لا يأمن جاره بوائقه” 2. بل ورهن دخول الجنة بحسن التعامل مع الجيران، فقال عليه الصلاة والسلام: “لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه” 3.
قد يسبق إلى الجنة وإلى رحمة الله من يتعبد إليه سبحانه وتعالى بأبسط العبادات، من صلوات وغيرها، لكنه بالموازاة محسن لجيرانه، خيّر وسط أهله… على من يظهر للناس أنه محسن في عباداته اليومية، لكنه سيء الخلق مع جيرانه . والشاهد هنا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: “يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: “هي في النار”، قال: يا رسول الله فإن فلانة تذكر قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الإقط، ولا تؤذي جيرانها، قال: “هي في الجنة” 4. فبرهان إيماننا ليس بكثرة العبادات فحسب بل بحسن الخلق مع العباد.
صلواتنا وصيامنا وصدقاتنا هي تجارة رابحة مع الله تعالى ولا شك، يجازي عليها بالإحسان إحسانا، لكن حقوق العباد إن لم نراعها برد المظالم وإفشاء السلام وكف الأذى، فلا صكوك للغفران معها تشفع لنا عند بارئنا.
فبئس الجار ذاك الذي باع رجل داره برخص التراب من أجله، باعها بثمن بخس فلامه الناس على ذلك فقال:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
ولم يعلموا جارا هناك ينغّص
فقلت لهم كفوا الملامة فإنما
بجيرانها تغلو البيوت وترخص
ونعم الجار عبد الله بن المبارك، الذي أراد جاره بيع منزله فعرضه بأربعة آلاف دينار، فقالوا له: هذا كثير على المنزل! فأجابهم: ألفا دينار قيمة الدار، وألفا دينار قيمة جوار عبد الله بن المبارك. فالذي يجاور محسنا يذوق من لطفه ومن حسن تعامله، بل يذوق حتى من طعامه.
فلنسع إلى تغيير سلوكيات الجهل فينا والتعامل بالأنا مع جيراننا وسوء الطبع نحوهم، ولنحفظ لهم أجنحة الرحمة ولين الجانب، ولنعط لبيوتنا قيمة معنوية، فنجعلها سكنا لأهلينا، وقبلة لجيراننا، يهتدون بنورها ويسعدون برحمة ساكنيها.