تعد الأسرة اللبنة الأساس في المجتمع، فهي النواة الأولية للجماعة، ومن هنا كان اهتمام المجتمعات الإنسانية بها وبكل ما ينظم العلاقات بين أفرادها، حتى تنعم بالاستقرار والطمأنينة، وتكون منتجة لعنصر بشري سوي متكامل ومنتج، وهذا ما دفع الدول ومن بينها المغرب لسن تشريع خاص بالأسرة، يسهم في خلق جو من الأمن والطمأنينة، عبر إقرار مجموعة من الحقوق والواجبات لكل أفراد الأسرة سواء كان زوجا أو زوجة أو طفلا، ويبدأ هذا التنظيم من الخطوبة إلى الوفاة.
غير أن التشريعات الوضعية لا يمكن أن تكون قارة، فهي تتطور بتطور المجتمع، وتتأثر بمجموعة من العوامل، الشيء الذي دفع المشرع لإعادة النظر في تلك القوانين، ومراجعتها بما يتناسب مع الظروف الآنية، حتى تكون مواكبة ومعاصرة للمجتمع، ومنه جاء تعديل مدونة الأسرة، حيث كانت هناك مجموعة من الإكراهات التي دفعت بضرورة هذا التعديل، هذه الإكراهات يمكن تقسيمها إلى ما هو سياسي، اجتماعي، وقانوني.
1- الإكراهات السياسية: وتتمثل بالضرورة في مبدأ الملاءمة، أي ملاءمة التشريعات الوطنية والتي من بينها مدونة الأسرة مع المواثيق الدولية المصادق عليها من قبل الدولة، وأيضا الملاءمة مع الدستور الذي يعتبر أسمى تشريع بالبلاد.
فالمغرب منخرط في عدة اتفاقيات ومعاهدات دولية، الشيء الذي يلزمه باحترام المبادئ والقيم التي تدعو لها تلك المعاهدات، فعقب اجتماعات الأمم المتحدة في 2020 في إطار ما يعرف ببكين 25، والذي كان من بين توصياته إطلاق دورة جديدة في الدفاع عن قضايا المساواة تحت شعار “جيل المساواة”، كان المغرب ملزما في إطار هذه التوصيات بتقديم تقرير دوري ل ”لجنة وضع المرأة“ والتي أحدثت بموجب اتفاقية “سيداو”، وهي معنية بقضايا التمييز ضد المرأة، حيث عقدت هذه اللجنة لقاءها مع المغرب في يوليوز 2022، وقدمت تقريرها السنوي الذي طالبت فيه بإجراء تعديلات تشريعية شاملة خالية من أشكال التمييز ضد المرأة وقائمة على تكريس مبدأ المساواة، حيث منحت المغرب سنتين للقيام بما يلزم، أي أن المغرب ملزم بالقيام بالتعديلات اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز قبل حلول يوليوز 2024.
ومن منطلق سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية، أتت الدعوة إلى ملاءمة هاته التشريعات مع ما جاء في هذه المواثيق من مطالب، وعلى رأسها المساواة بين الرجل والمرأة، غير أن هذا يبقى محل نقاش، فالدستور المغربي جاء فيه “جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة”، والتي تتميز بالأساس بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة، أي أن الأمر ليس على إطلاقه، فكلما كانت هذه الاتفاقيات فيها مس بالسيادة وبالدستور والهوية الوطنية الراسخة، كلما تم التحفظ على تلك البنود وعدم الأخذ بها، وكما هو معلوم فإن الدستور يعتبر أن الدين الرسمي للمغرب هو الإسلام، ومعلوم أن الإسلام جاء بمجموعة من المبادئ والقيم المؤطرة للمجتمع، كالشورى والحق والعدل والرحمة والإحسان، والتي تترجم إلى مناهج وسلوكيات تربوية، ونظم وتشريعات قانونية، يكون لها ثقل التوجيه والضبط والإعانة على متطلبات السلوك الفردي والاجتماعي. والعلاقة بين الرجل والمرأة في مؤسسة الأسرة الإسلامية تحكمها مجموعة من المبادئ، والمتمثلة في العدل والإنصاف والرحمة والإحسان والتكامل وليس المساواة بمفهومها التماثلي، فالمساواة التماثلية فيها ضرر كبير على المرأة وإجحاف في حقها، لأن المطالبة بالمساواة التماثلية، تعني المساواة في جميع الواجبات والحقوق، وهذا ما لا يتناسب مع الوظائف التكاملية لكل من الرجل والمرأة، ولنا في الغرب أسوة سيئة، حيث نجد أن النتيجة من تطبيق هاته المفاهيم هو القضاء على مؤسسة الأسرة، ونبذ مؤسسة الزواج، وانحلال المجتمع. ومنه فإن كانت هناك مظلومية للمرأة وهي موجودة، فالأجدر المطالبة بالإنصاف والعدل بما يتماشى مع مبادئ الشريعة السمحة، فالتوازن إنما يكمن في التشريع الإسلامي الذي راعى جانب المساواة وجوانب الاختلاف بين الرجل والمرأة تطابقا واختلافا.
2- الإكراهات الاجتماعية: لا يخفى على أحد أن المجتمعات تتطور بتطور الزمن، وتتأثر بمجموعة من العوامل، فبعد مرور عشرين سنة على تنزيل مدونة الأسرة، ظهرت مجموعة من الإشكالات لم تعد المدونة بشكلها الحالي تستوعبها، حيث حدث تغير في بنية الأسرة نفسها، فالمرأة في السنوات الأخيرة لم تعد حبيسة البيت ولم يعد دورها منحصرا في الأعمال المنزلية وتربية الأبناء، فالمرأة أصبحت تطالب بالتمكين الاقتصادي والسياسي أكثر من ذي قبل، كما أن هناك وعيا بضرورة تعليم المرأة، وتطوير ذاتها، حتى تكون عنصرا فاعلا في المجتمع، كما حدث تراجع في بعض وظائف الرجل بسبب. عدة عوامل تربوية واقتصادية… أصبحنا نجد العديد من الأسر تعيلها النساء كما أن هناك العديد من الأبناء يتم التخلي عنهم من قبل الآباء بمجرد أن تتم الفرقة، حيث يتنصل يعض الأباء من مسؤولياتهم تجاههم. وأمام كل هذه المتغيرات كان لابد من إعادة النظر في بعض النصوص التي تضمنتها مدونة الأسرة، والتي لم تعد تواكب تغيرات العصر، وعلى سبيل المثال النيابة الشرعية والتي هي مسؤولية للرجل بمقتضى نصوص مدونة الأسرة الحالية، فهذا النص أصبح لا يستوعب الإشكالات الحاصلة، فهناك من الرجال من يتخلون عن وظائفهم اتجاه أبنائهم بمجرد حصول الطلاق، فتتولى المرأة المسؤولية المادية والمعنوية، فتكون هي المربي وهي المعيل، لكن عند اتخاذ القرارات المصيرية للأطفال، أو ضرورة القيام ببعض الإجراءات الإدارية، نجد أن المرأة ممنوعة قانونا، وأنه عليها البحث عن الأب من أجل القيام بهذه الإجراءات. وهذا المقتضى فيه ظلم وحيف، ومن بين مقترحات جماعة العدل والإحسان في هذا المقام؛ أن يقوم الأب والأم أي منهما بالإجراءات الإدارية للأبناء، وفي حال وقوع خلاف بينهما يرفع الأمر إلى القضاء الاستعجالي ليفصل في الأمر على ضوء المصلحة الفضلى للطفل.
3- الإكراهات القانونية: ويقصد بالإكراهات القانونية، تلك العيوب التي توجد في النص القانوني نفسه، أو في كيفية تنزيله وفهم مقاصده، فمن حيث الثغرات التي تعتري النص القانوني، نعطي مثالا بالمادة 45 من مدونة الأسرة التي تفيد بضرورة إحالة الزوجة على مسطرة الشقاق عند إبدائها عدم قبول طلب الزوج بالتعدد، بالرغم من أن الطلب يقدم للمحكمة، وأنها هي صاحبة القرار في منح التعدد من دونه، حيث يبقى رأي الزوجة من باب تكوين قناعة القاضي وليس أمرا مفصليا، ومنه كيف للقاضي أن يبت في ما لم يطلب منه، إذ أن المسطرة الجارية أمامه هي مسطرة التعدد، وليس هناك أي طلب لا للزوج أو الزوجة بالتطليق، وبالرغم من ذلك تحال الزوجة على مسطرة التطليق للشقاق، دون مراعاة لما سيخلفه هذا الإجراء من هدم للأسرة.
أما من حيث التنزيل وفهم النصوص نجد على سبيل المثال أن المرأة التي تطلب التطليق للشقاق تحرم من حقها في المتعة، بناء على اجتهاد قضائي، لأنه ليس في قانون مدونة الأسرة ما يفيد ذلك، غير أن تنزيل النصوص المنظمة للتطليق للشقاق لم تطبق بشكل سليم، فلا يمكن حرمان المرأة من حقها في المتعة فقط لأنها طلبت التطليق للشقاق، بل يجب البحث في الأسباب التي دفعتها لذلك، وما مدى الضرر الذي لحقها، ومن تم القول باستحقاقها للمتعة أم لا.
ومنه فإننا نجد أنفسنا أمام مجموعة من الإكراهات التي دفعت إلى تعديل مدونة الأسرة، غير أن هذا التعديل لا بد أن تستحضر فيه الخصوصية الثقافية للمجتمع المغربي والهوية الدينية الراسخة، كما أنه لا يمكن المراهنة على أي تغير جزئي دون الأخذ بمقاربة شمولية، تأخذ بعين الاعتبار الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي كمدخل أساس.