خروج فئات من رجال ونساء التعليم وفي مقدمتهم الأساتذة المتعاقدون، وكذا موظفو الجماعات الترابية، والممرضون وتقنيو الصحة، وتحرك عمال لاسمير، وغيرهم من الفئات الاجتماعية المتضررة من السياسات العمومية الرسمية، واحتجاج مالكي المخابز ومالكو ومستخدمو النقل العمومي، واحتجاجات ساكنة بعض الحواضر على تدهور القدرة الشرائية…. كلها مؤشرات تدل على أن الصبر الجماعي لمغاربة الطبقة الوسطى بدأ ينفذ مع تزايد انهيار قدرتهم الشرائية بشكل فظيع. أقول الطبقة الوسطى، لاعتبارات غير خافية، وإلا فملايين الطبقة الفقيرة تعيش الإقصاء الاجتماعي والبأس على الهامش منذ مدة طويلة، ولا من يلتفت إليهم للأسف إلا مسكنات وملهيات!
مظاهر الاحتجاج ستعرف تصاعدا في الفترة القادمة، لأسباب تعود أساسا إلى: استمرار تداعيات كورونا الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها الانكماش الاقتصادي وارتفاع نسب العطالة والفقر والهشاشة، آثار الجفاف على الانتاج الزراعي والأنشطة الاقتصادية المرتبطة به، ارتفاع تكلفة استيراد النفط بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، وارتفاع الأسعار بسبب ارتفاع معدلات التضخم عالميا ومحليا، وبسبب جشع الرأسمال المحلي، وهي لائحة تنضاف إلى فشل الدولة في إقرار أسس تنمية مستدامة قادرة على خلق الثروة، وعلى تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في توزيعها بكرامة، وإتاحة الفرصة للشعب للإسهام في بناء نظام ديموقراطي قائم على الاختيار والمحاسبة.
من جهة ثانية، لا جديد في لغة المسؤولين وسلوكهم السياسي يوحي بالاطمئنان على مآل الأمور: نفس اللغة ونفس الشعارات المحكومة بمنطق السوق، الأولوية فيه للرأسمال والحسابات الماكرو اقتصادية. لكن في أظرفة متغيرة عنوانها اليوم “النموذج التنموي” المختنق في غياب أكسجين التمويل، والبديل الوحيد في حالة المغامرة “بالسلم الاجتماعي” هو العصا والقمع. وهو بديل من شأنه أن يزيد الطين بلة، ونار الغضب اشتعالا، لاسيما إذا انتهى الحوار الاجتماعي إلى توقيع على “التهدئة الاجتماعية المجانية” أمام انتظارات قاعدية كبيرة.
من جهة ثالثة، النقابات تدخل إلى جلسات الحوار الاجتماعي في ظل وضع متوتر، وعلى الطاولة ملفات مطلبية حارقة، في مقدمتها الزيادة في الدخل، وتخفيض الأسعار، وملف المقاصة، والتقاعد، والتعاقد، وتكرير البترول في لاسمير، وحل ملفات الأنظمة الأساسية للموظفين، وتصر الدولة إلا على إعطاء الأولوية لملف قانون تكبيل الإضراب وقانون خنق النقابات، وتصر الباطرونا على إضافة إصلاح مدونة الشغل… باعتبارها أدوات الضبط. الوضع الاقتصادي العام والخاص لا يبشر بخير، والمديونية بلغت مبلغا صعبا. فما العمل؟!
تأبى التجارب الدولية إلا أن تعلمنا أن الرهان على تعبئة اجتماعية حقيقية ومسؤولة، ييسر تطورها ونموها لتبلغ رشدها، وييسر تشبيكها وتجسيرها لتبلغ القدرة على التأثير، وترجيح ميزان القوى لصالح التغيير والإصلاح، القوى الاجتماعية الحية في البلد. نقابات وتنسيقيات وجبهات وجمعيات وحركات اجتماعية مناضلة شعارا وفعلا.
وهذا يطلب التعالي على “التعصب السياسوي” وسلوكات الإقصاء. إن اللحظة التي تجتازها بلادنا صعبة، تطلب الوضوح مع الشعب، والمسؤولية في اتخاذ القرار، ونكران الذات لتجميع جهود كل الفاعلين، والإبداع في الأشكال والسيناريوهات والآليات الكفيلة بالخروج من عنق الزجاجة. والهم الاجتماعي والاقتصادي جامع، ومطلب العدالة الاجتماعية جامع، ومطلب الكرامة والحرية، كما أن واجب التضامن في ظل صولة القمع جامع.
التجسير معناه تجميع القوى في قوة اجتماعية ميدانية واحدة بدونها تصير التحركات الصغيرة والمشتتة والمبعثرة أدوات يتقن المخزن تحويرها، والاستفادة من خدماتها التنفيسية، والانفراد بها وقمعها إذا تجاوزت حدود الضبط.
الاحتقان الاجتماعي عنوان المرحلة، ومسؤولية المبادرة في ملعب الفاعلين المجتمعيين، والتراكم النضالي مهم بشرط أن يتم بأفق استراتيجي واع، عنوانه: لا تغيير ولا إصلاح بدون نضال مسؤول وجامع.