بعد الاصطفاء الرباني لنا أن نكون من أمة سيدنا محمد ﷺ ساقتنا الأقدار لأن نكون زوجين على سنة الله ورسوله، تحقيقا لمقاصد جمة وغايات عظمى، منها ما نعرف، ومنها ما لا يدركه إلا الله سبحانه، ينتخب الله هذا النوع من الزواج على سائر الأنواع والعلاقات الأخرى التي تربط الذكر بالأنثى، والتي سطرها الإنسان بعقله القاصر، وبشهواته الفاتكة، فانحاز بفهمه، عن محجة الله المُقَدَّرة بمصلحة الإنسان بداية ووسطا وانتهاءً، ليكون الزواج بين ذكر وأنثى، كما فطره الله تعالى في كل مجتمعات الخلائق، وليكون الدور بعد التزاوج مشتركا لينسجا معا تكاملا في التنوع..
فآدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى لم يقم بفعل أو حركة، حتى سوى منه زوجه، ليشتركا معا في صناعة الأثر الدنيوي المستنبت من توجيه الله، والمغذى بأمر الله والمنتهي إلى الله، فأنتِ نصف ثابت غائرة جذوره في دنيا الوجود، لا يستغني عنك مجتمع، ولا يستقيم من غيرك أمر، ولا ينبعث من سواك أمل، حُزتِ أنوثة، بها يُعتبر العيشُ، وأُعْطِيتِ عاطفة بها تُدفأ المواليد، ونِلت رخاوة وقارورية، وَوُسِمت بصفة النباتية التي بها تَكسر ذكورية الرجل المستوحاة من لفظ الصناعة اللصيق به..
تساءلتِ السمكةُ يوما عن شهرة الماء وقيمته التي يتحدث بها الناس، دون أن تدركها هي لأنها تعيش فيه، ولم تفارقه يوما لتعلم فَرادَته، ونحن نعيش أيضا هذا الزواج في كنف الله، نتقرب به إلى الله في كل حركاتنا الفطرية الغرائزية وغيرها، أُنفِقُ وهي حق لك، فتقابلي حقك بالإحسان تبعُلا، أُسْكِنُكِ من وٌجدي، فتجعل من نفسك سكنا وسكنى ومسكنا وسكينة لي، لا يضاهي حضنك إلا حضن الأم الأصيل، نتفيأ رحمات هذا الزواج، ولكن قد لا ندري عظمته بقدر ما يدريه المحروم منه، أو الراسب فيه، أو المغرر الذي توهم يوما أنه قيد لحريته، وسجن لدوابيته..
رس الإيمان الزواج وبناه على التناظر الديني أولا، فلفظ الزوج أو الزوجة أو الزوجية لم يطلقها القرآن الكريم إلا على الذكر والأنثى المؤمنيْن، يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة،يا أيها النبي قل لأزواجك، قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها، لكن انظر كيف عبر القرآن الكريم بلفظ غير الزوجية عند الكافريْن سيصلى نارا ذات لهب وامرأته، ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، وضرب مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون، ولأنه سنة الأنبياء، زكاه الله بخيرية الرجل وقوامته بالرحمة، وزكاه أيضا بحافظية المرأة وسروريتها، وبطاعتها في غير معصية، قال ﷺ: “ألا أخبرك بخير ما يكتنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته”. رواه أبو داود والحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد.
قد لا يتذوق الكثير لذة الزواج إن لم يخرجه من فرث العادة الجارفة، أو لوثة الذكورية الكاشفة، التي تجعل من الزواج روتينا دنيويا، يجيب عن الأسئلة الدوابية أكلا، وجِماعا ومتاعا ولهوا… دونما نفاذ إلى كنهه… الزواج ستر، صحبة ومعية، حصن آمن وسر أمين..
الزواج بدوره عرف انكسارا في المفهوم والممارسة منذ الانكسار التاريخي للأمة، ليَخرج من عِلِّية الدين إلى وَضاعة الدنيا ويتدنس بالأفهام المناقضة لمقاصده، فالنبوة والخلافة الراشدة هيأت البنية الإيمانية ولبنات الكرامة الإنسانية لمَّا كان العدل في الأرزاق والعدل في الحكم أصلا، إذا جعلت من الزواج وسيلة في الحياة لا هدفا، تفرمل به نزغات الشهوة لئلا تنتشر بها الفواحش، وتيسر أمره تخفيضا لنفقاته حتى يتيسر للجميع محاربة للعنوسة وسترا للأرامل وسكنا للأيامى، وحفظا للمطلقات..
لكن بعد البعد عن زمن النبوة والخلافة الراشدة قرونا، وتَعَرُّض الأمة للاحتلال الغربي وإغراقها من طرفه بكل الموبقات والفواحش، وفَرَّخ فيها كل عتل زنيم، مبيد للأخلاق والقيم، تتعالى أصواتهم اليوم تحللا من كل ذوق إنساني، ومغزى رباني، للنيل من عصمة الأسرة، وقَدْر المرأة، فيوهمون الجميع بأخطاء بعض المسلمين أن المرأة تعاني من قسوة الرجل، وتُحرم من ملذات الحياة، وتُغَلُّ بقيود الدين والأعراف، على غير نظيراتها في الغرب، وأخواتها في الأمة الإسلامية المتحررات من كل “الأغلال” دينيةً كانت أم مجتمعية أم أخلاقية… ثائرات على “نسج الأسرة المقيدة”، يُردن حياة بهيمية، بل أضل من البهيمية..
وما دَرَوْا أنهم يحفرون لأنفسهم قبر السقوط الأخلاقي، وَهُم يؤشرون على مِثْلية مقيتة وسِحاقية وبِيئَة، ويهدمون صرْح الأسرة النظيف، اللبنة الأساس في تشييد المجتمع العفيف..
سيدتي:
الزواج منعرج في مسار ولادة ثانية لي ولك، بعد الولادة الأولى، مِرآة متحركة نرى فيها بشرا مشتَركا منا، أخذ منكِ ومني ما تتجدد به حياتنا وتتواصل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أبناؤنا: نُسَخ منا عَدَّلها الله، تنتظر منا حِضنا مشتركا، تتشرب منك رحمة وعطفا وحِنِّية ودلاعا، وتتشرب مني ترجلا وتشجيعا وصناعة، عل الله تعالى يبارك به نَشْءًا متوازنا لا تتفرط فيه ميولات التأنيث فيتخنث، ولا تتفرط فيه ميولات التذكير فيتصلب، نلهج بالدعاء عسى الله أن يصنعه على عينه، ونجتهد عساهم يصبح أبناء الإسلام الصالحين المصلحين الذين تُدركنا شفاعة صلاحهم، وتصلنا تحت الثرى بركات دعواتهم..
عزيزتي:
عهد علينا أن نحفظ هذا الوصال، وأن نسند هذا الميثاق الغليظ، ننظفه من درن الخلاف، ونُبَيضه من نتوءات الغضبية المرتبطة باجتهادات الحياة الدنيا، ونجعله سيرا دنيويا يَنْظِم لنا السير الأخروي، فما الزواج إلا امتحان يسير لمن يسره الله عليه، يجمع منه الزوج الأجر الوفير، فالخيرية الممضاة هي خيرية الرجل لأهله، ودرهم أنفقته على أهلك، هو خير النفقات، “وغارت أمكم”، أجمل تمثل لخفض الجناح عند الغيرة، وظلم أحد الضعيفين تَحَرُّج مع الرسول ﷺ، والرحمة والعطف والكرم مفتلات الرجولة… كما تجمع منه المرأة حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فأبواب الجنة تتنافسك لتدخليها أنت إن صليتِ خمسك، وصُمتِ شهرك، وحفظت فرجك وأطعت زوجك، بل جعل قدميك فوق الجنة تنقاد لك رضى بما تُرضين به ربك، وتتسيدين الحور العين خلائق الجنة الأبكار العُرُب الأتراب يوم نكون متكئين على الأرائك في جنات الخلد إن شاء الله..
فهلا شمرنا السواعد، وحفظنا المواعد، وصبرنا المواجد، تكونين لي قطعة من أمنا خديجة عليها السلام، نَصرتْ حين خذل الناس، وأعطت حين حرم الناس وساندت حين تخلى الناس، وولدت حين منعت النساء، وأحاول أن أكون لك أبا زرع بنسخته النبوية الحافظ على العهد بالإطلاق لا المنهي زواجه بالطلاق.
عاشروهن بالمعروف: جوامع كَلِم في جوامع إحسان، فإن أطعنكم انسيابية خير، ولمة إحسان…
فاللهم اجعلنا من المحسنين…
والسلام عليكم ورحمة الله.